فرض صيام شهر رمضان وزكاة الفطر

قال الطبري، في حوادث السنة الثانية للهجرة، بعد ذكره لتحويل القبلة إلى الكعبة المشرَّفة، ما نصّه: وفي هذه السنة فرض - فيما ذكر - صوم رمضان وقيل: إنه فرض في شعبان منها. وفيها أمر الناس بإخراج زكاة الفطر وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، وأمرهم بذلك. وفيها خرج إلى المصلى فصلى بهم صلاة العيد، وكان ذلك أول خرجة خرجها بالناس إلى المصلى لصلاة العيد وفيها - فيما ذكر - حملت العنزة له إلى المصلى فصلى إليها، وكانت للزبير بن العوام - كان النجاشي وهبها له - فكانت تحمل بين يديه في الأعياد.

قلت: وفي هذا الخبر، بيان الزمن الذي سنّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه صلاة العيد.

تحويل القبلة

قال تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة].

عن ‌البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى، أو صلاها، صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا، لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)} [البقرة].

رواه البخاري.

قلت: وذلك في السنة الثانية للهجرة.

وفي رواية عند البخاري: "فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل، ثم خرج بعد ما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر".

قلت: وهذا وهم من الراوي، حيث أنه سمع أن أول صلاة صلّاها النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل الكعبة، كانت صلاة العصر، فوهم فظن أن الذين كانوا يصلون العصر، هم أهل قباء.

فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة".

رواه البخاري ومسلم.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس. فنزلت: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر. وقد صلوا ركعة. فنادى: ألا إن القبلة قد حولت. فمالوا كما هم نحو القبلة.

رواه مسلم.

فهذه نصوص صريحة صحيح، على أن الرجل مرّ بالقوم صلاة الصبح، وأن أهل ذاك المسجد هم أهل قباء.

وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} أي: أن أهل الكتاب، من يهود المدينة، يعلمون أن النبي لم يستقبل الكعبة، ويدع المسجد الأقصى، إلّا بأمرٍ من الله تعالى له بذلك، ولكنهم أرادوا أن يطعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وتشكيك الناس في دينهم، فقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} فرد الله تبارك وتعالى عليهم قائلا: {قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة].

غزوات النبي قبل يوم بدر

غزوة الأبواء

قال ابن إسحاق: ثم خرج غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة. 

قلت: كانت غزوة الأبواء في السنة الثانية للهجرة، على تاريخ عمر.

غزوة ودان وهي أول غزواته عليه الصلاة والسلام، حتى بلغ ودان، وهي غزوة الأبواء، يريد قريشا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذي وادعه منهم عليهم مخشي بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه ذلك. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيدا.

قال ابن سعد: وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب. وكان لواء أبيض. واستخلف على المدينة سعد بن عباده. وخرج في المهاجرين. ليس فيهم أنصاري. حتى بلغ الأبواء يعترض لعير قريش فلم يلق كيدا. وهي غزوة ودان. وكلاهما قد ورد. وبينهما ستة أميال وهي أول غزوة غزاها بنفسه. وفي هذه الغزوة وادع مخشي بن عمرو الضمري. وكان سيدهم في زمانه. على أن لا يغزو بني ضمرة ولا يغزوه. ولا يكثروا عليه جمعا. ولا يعينوا عدوا. وكتب بينه وبينهم كتابا .. ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مقامه ذلك بالمدينة، عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز، بأسفل ثنية المرة، فلقي بها جمعا عظيما من قريش، فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمي يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام. ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية. وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني، حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان ابن جابر المازني، حليف بني نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار. وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل. 

قال ابن هشام: حدثني ابن أبي عمرو بن العلاء، عن أبي عمرو المدني: أنه كان عليهم مكرز بن حفص بن الأخيف، أحد بني معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر.

قال ابن إسحاق: فكانت راية عبيدة بن الحارث- فيما بلغني- أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، لأحد من المسلمين. وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء، قبل أن يصل إلى المدينة.

قال ابن إسحاق: وبعث في مقامه ذلك، حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، إلى سيف البحر، من ناحية العيص، في ثلاثين راكبا من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد. فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاث مائة راكب من أهل مكة. فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني. وكان موادعا للفريقين جميعا، فانصرف بعض القوم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال. وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين. وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا، فشبه ذلك على الناس.

قلت: وقوله: "وبعث في مقامه ذلك" أي: إقامته في المدينة، بعد غزوة الأبواء.


غزوة بواط

قال ابن إسحاق: قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول يريد قريشا.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.

قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط، من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.

قال ابن سعد: ثم غزوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بواط في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره. وحمل لواءه سعد بن أبي وقاص. وكان لواء أبيض. واستخلف على المدينة سعد بن معاذ. وخرج في مائتين من أصحابه يعترض لعير قريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير. فبلغ بواط. وهي جبال من جبال جهينة من ناحية رضوى. وهي قريب من ذي خشب مما يلي طريق الشام .. فلم يلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيدا فرجع إلى المدينة.


غزوة ذي لعشيرة

ثم غزوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذا العشيرة في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره. وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب. وكان لواء أبيض. واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وخرج في خمسين ومائة. ويقال في مائتين من المهاجرين ممن انتدب. ولم يكره أحدا على الخروج. وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها. خرج يعترض لعير قريش حين أبدأت إلى الشام. وكان قد جاءه الخبر بفصولها من مكة فيها أموال قريش. فبلغ ذا العشيرة. وهي لبني مدلج بناحية ينبع. وبين ينبع والمدينة تسعة برد. فوجد العير التي خرج لها قد مضت قبل ذلك بأيام. وهي العير التي خرج لها أيضا يريدها حين رجعت من الشام فساحلت على البحر. وبلغ قريشا خبرها فخرجوا يمنعونها. فلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببدر فواقعهم وقتل منهم من قتل. وبذي العشيرة كنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب أبا تراب. وذلك أنه رآه نائما متمرغا في البوغاء فقال:، اجلس. أبا تراب!، فجلس. وفي هذه الغزوة وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.


غزوة بدر الصغرى

قال ابن إسحاق: ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة زيد بن حارثة.

قال ابن إسحاق: حتى بلغ واديا، يقال له: سفوان، من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر، فلم يدركه، وهي غزوة بدر الأولى. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا وشعبان.

قال ابن سعد: وحمل لواءه علي بن أبي طالب. وكان لواء أبيض.


غزوة نخلة

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب، مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا. وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين. ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، ومن حلفائهم: عبد الله ابن جحش، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن بن حرثان، أحد بني أسد ابن خزيمة، حليف لهم. ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر، حليف لهم. ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص. ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة، حليف لهم من عنز بن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع، أحد بني تميم، حليف لهم، وخالد بن البكير، أحد بني سعد بن ليث، حليف لهم. ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء. فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب، فنظر فيه فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب، قال: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشا، حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم. فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف عنه منهم أحد. وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع، يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما، كانا يعتقبانه. فتخلفا عليه في طلبه. ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما، وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو ابن الحضرمي.

قال ابن هشام: واسم الحضرمي: عبد الله بن عباد، ويقال: مالك ابن عباد، أحد الصدف، واسم الصدف: عمرو بن مالك، أحد السكون بن أشرس بن كندة، ويقال: كندي.

قال ابن إسحاق: وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله، المخزوميان، والحكم بن كيسان، مولى هشام بن المغيرة. فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا عمار، لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب فقال القوم والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم ابن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.


وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم- فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه.

قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فوقف العير والأسيرين. وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين، ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان. وقالت يهود- تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم- عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو، عمرت الحرب، والحضرمي، حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله، وقدت الحرب. فجعل الله ذلك عليهم لا لهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير، وصد عن سبيل الله وكفر به، والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله ٢: ٢١٧ أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم والفتنة أكبر من القتل ٢: ٢١٧: أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ٢: ٢١٧: أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم ابن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نفديكموها حتى يقدم صاحبانا- يعني سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان- فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم. فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا. وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، فمات بها كافرا. فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله: أنطمع، أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فيهم: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله، والله غفور رحيم ٢: ٢١٨، فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء.

والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.

قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن الله عز وجل قسم الفيء حين أحله، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه الله، وخمسا إلى الله ورسوله، فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير.

قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون. وعمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون، وعثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون.


خبر الأذان

قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمر الأنصار، استحكم أمر الإسلام .. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة مواقيتها، بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل بوقا كبوق يهود الذين يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة، فبينما هم على ذلك، إذ رأى عبدالله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، أخو بلحارث بن الخزرج، النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف: مر بي رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوسا في يده، فقلت له: يا عبدالله، أتبيع هذا الناقوس ‏‏؟‏‏ قال: وما تصنع به ‏‏؟‏‏ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك ‏‏؟‏‏ قال: قلت: وما هو ‏‏؟‏‏ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إنها لرؤيا حق، إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه، فليؤذن بها، فإنه أندى صوتا منك، فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب، وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يجر رداءه، وهو يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد على ذلك.

تعرض ابن أبي له صلى الله عليه وسلم، وغضب قومه منه

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد بن حارثة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه إكاف، فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف، وأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ‏‏.‏‏ قال: فمر بعبدالله بن أبي، وهو في ظل مزاحم أُطُمِه، وحوله رجال من قومه.

قلت: وذلك قبل أن يتظاهر ابن أبي بالإسلام.

قال أسامة بن زيد: فلما رآه رسول الله تذمم من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلم ثم جلس قليلا فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل، وذكر بالله وحذر، وبشر وأنذر قال: وهو زام لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغُتَّه به، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه ‏‏.‏‏ قال: فقال عبدالله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى، فاغشنا به، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله مما نحب، ومما أكرمنا الله به وهدانا له.

قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسامة، قال: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على سعد بن عبادة، وفي وجهه ما قال عدو الله ابن أبي، فقال: والله يا رسول الله إني لأرى في وجهك شيئا، لكأنك سمعت شيئا تكرهه، قال: أجل، ثم أخبره بما قال ابن أبي، فقال سعد: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإنا لننظم له الخرز لنتوِّجه، فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكا.

شقاء عبدالله بن أبي، وأبي عامر بن صيفي

قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة - وسيد أهلها عبدالله بن أبي بن سلول العوفي، ثم أحد بن الحبلى، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، حتى جاء الإسلام غَيْرَه، ومعه في الأوس رجل، هو في قومه من الأوس شريف مطاع، أبو عامر عبدعمرو بن صيفي بن النعمان، أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو أبو حنظلة، الغسيل يوم أحد، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وكان يقال له: الراهب. فشقيا بشرفهما وضرَّهما. فأما عبدالله بن أُبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم، وهم على ذلك. فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا. فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن. وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام، فخرج منهم إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثني محمد بن أبي أمامة عن بعض آل حنظلة بن أبي عامر - : لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا: الفاسق.

قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم، وكان قد أدرك وسمع، وكان راوية: أن أبا عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، قبل أن يخرج إلى مكة، فقال: ما هذا الدين الذي جئت به؟‏‏ فقال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال: فأنا عليها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لست عليها، قال: بلى، قال: إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها (1)، قال: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا - يعرِّض برسول الله صلى الله عليه وسلم - أي أنك جئت بها كذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، فمن كذب ففعل الله تعالى ذلك به. فكان هو ذلك عدو الله، خرج إلى مكة، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج إلى الطائف. فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام. فمات بها طريدا غريبا وحيدا. وكان قد خرج معه علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب، وكنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي، فلما مات اختصما في ميراثه إلى قيصر، صاحب الروم، فقال قيصر: يرث أهل المدر أهل المدر، ويرث أهل الوبر أهل الوبر، فورثه كنانة بن عبدياليل بالمدر دون علقمة.

(1) - ما أشبه ما قاله أبو عامر الفاسق للنبي (ص) بما قاله أهل البدع والزيغ والضلال من المتكلمين والصوفية للإمام محمد بن عبدالوهاب، عندما قالوا له: نحن على ملة محمد. فقال الإمام: لستم على ملة محمد. فقالوا: بلى نحن عليها، ثم قالوا له: لقد أدخلت في دين الإسلام ما ليس منه. فكانوا هم الكاذبون وهو الصادق رحمه الله ورضي عنه.

كتاب النبي (ص) إلى يهود خيبر

 قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر، فيما حدثني مولى لآل زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحب موسى وأخيه، والمصدق لما جاء به موسى: ألا إن الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم: ‏‏{‏‏‏‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح]. ‏‏وإني أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله، إلا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد ‏‏؟‏‏ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كُرْه عليكم، ‏‏{‏‏قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (256)} [البقرة].‏‏ فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه.

عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق: ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة، بغيا وحسدا وضغنا، لما خص الله تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم، وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج، ممن كان عسى - أي بقي - على جاهليته، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه، فظهروا بالإسلام، واتخذوه جُنَّة من القتل، ونافقوا في السر، وكان هواهم مع يهود، لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وجحودهم الإسلام، وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنَّتونه، ويأتونه باللَّبس، ليلبسوا الحق بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه، إلا قليلا من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها ‏‏.‏‏ منهم: حيي بن أخطب، وأخواه أبو ياسر بن أخطب، وجُدَيّ بن أخطب، وسلاَّم بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلاَّم بن أبي الحقيق، وأبو رافع الأعور، - وهو الذي قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر - والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحَّاش، وكعب بن الأشرف، وهو من طيئ، ثم أحد بني نبهان، وأمه من بني النضير، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف، وكردم بن قيس، حليف كعب بن الأشرف، فهؤلاء من بني النضير ‏‏.‏‏ ‏ومن بني ثعلبة بن الفِطْيَوْن: عبدالله بن صُوريا الأعور، ولم يكن بالحجاز في زمانه أحد أعلم بالتوراة منه، وابن صلوبا، ومخيريق، وكان حبرهم، أسلم ‏‏.‏‏ ومن بني قينقاع: زيد بن اللَّصيت - ويقال: ابن اللُّصيت - فيما قال ابن هشام - وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان، وعُزيز بن أبي عزيز، وعبدالله بن صيف ‏‏.‏‏ وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفِنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضا، وبحري بن عمرو، وشأس بن عدي، وشأس بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسُكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى، أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن صيف ‏‏.‏‏ وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد وأزار بن أبي أزار ‏‏.‏‏ ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع ‏بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وعبدالله بن سلام بن الحارث، وكان حَبرْهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله ‏‏.‏‏ فهؤلاء من بني قينقاع ‏‏.‏‏ ومن بني قريظة: الزبير بن باطا بن وهب، وعزّال بن شمويل، وكعب بن أسد، وهو صاحب عَقد بني قريظة الذي نُقض عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة، والنحام بن زيد، وقردم بن كعب، ووهب بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، و عدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكَرْدم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا، فهؤلاء من بني قريظة ‏‏.‏‏ ومن يهود بني زريق: لبيد بن أعصم، وهو الذي أخَّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه ‏‏.‏‏ ومن يهود بني حارثة: كنانة بن صُوريا ‏‏.‏‏ ومن يهود بني عمرو بن عوف: قردم بن عمرو ‏‏.‏‏ ومن يهود بني النجار: سلسلة بن برهام ‏‏.‏‏ فهؤلاء أحبار اليهود، أهل الشرور والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأصحاب المسألة، والنصب لأمر الإسلام الشرور ليطفئوه، إلا ما كان من عبدالله بن سلام، ومخيريق ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه ‏‏.‏‏ قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء، في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين - أي ذهبا بعد الفجر وقبل أن يذرّ قرن الشمس - قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ‏‏.‏‏ قالت: فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى ‏‏.‏‏ قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم ‏‏.‏‏ قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو ‏‏؟‏‏ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته ‏‏؟‏‏ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه ‏‏؟‏‏ قال: عداوته والله ما بقيت ‏‏.‏‏

إسلام عبدالله بن سلام رضي الله عنه

قال ابن إسحاق: وكان من حديث عبدالله بن سلام، كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حبرا عالما، قال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت مسرا لذلك، صامتا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء، في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي، حين سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت، قال: فقلت لها: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به ‏‏.‏ قال: فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ‏‏؟‏‏ قال: فقلت لها: نعم ‏‏.‏‏ قال: فقالت: فذاك إذا ‏‏.‏‏ قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي، فأمرتهم فأسلموا ‏‏.‏‏ قال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك، وتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني، حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني ‏‏.‏‏ قال: فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته، ودخلوا عليه، فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم: أي رجل الحصين بن سلام فيكم ‏‏؟‏‏ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا ‏‏.‏‏ قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم، فقلت لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأومن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا: كذبت ثم وقعوا بي ‏‏.‏‏ قال: فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور ‏‏!‏‏ قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث، فحسن إسلامها ‏‏.‏‏

عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس عليه، وكنت فيمن انجفل، فلما رأيته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول: "يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

رواه أحمد.

وعن‌ أنس بن مالك، أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني به جبريل آنفا قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه، قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله.

رواه البخاري.

قلت: وجمعاً بين الأخبار، فإن عبدالله بن سلام رضي الله عنه، كان قد غلب عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق في دعواه النبوّة، فلما بلغه خبر قدوم النبي المدينة وهو في رأس نخلته التي يعمل فيها، كبَّر، فجرى بينه وبين عمّته ما ساقه ابن إسحاق، ثم إنه توجه إلى النبي، وأراد أن يتثبّت مما غلب على ظنّه، فسأله عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، فلما أخبره النبي بها، وتثبّت أنه نبي، أشهر إسلامه، ونطق الشهادتين، ثم رجع إلى أهل بيته وأمرهم أن يسلموا ويكتموا إسلامهم عن قومهم، لأنه أراد بذلك أن يعر فالنبي مكانته من قومه، فرجع إلى النبي وأخبره أن اليهود قوم بهت، وأنه سيّد من ساداتهم، وطلب منه أن يسألهم عنه قبل أن يخبرهم بإسلامه، فجرى ما حكاه أنس وابن إسحاق.

والله أعلم.

موادعة النبي (ص) لليهود

قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، بين ‏المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظُلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يُعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يُبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر مُحْدثا ولا يُؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ‏ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتِغُ إلا نفسه، وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لا ينحجز على نار جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظُلِم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم، وإنه لا تجُار حُرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخُاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، ‏وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجُار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دُعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهم، وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة ‏‏.‏‏ مع البر المحض‏‏ من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمنٌ، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.

وقال ابن هشام: المُفْرح: المثقل بالدين والكثير العيال ‏‏.‏‏

قلت: وقوله: "أو ابتغى دسيعة ظُلم" الدسيعة هي الدفع، أي: ابتغى دفيعة ظلم، بمعنى: أراد دفعاً إلى الظلم، إما أنه يدفع نفسه إلى الظلم، أو يريد من الناس أن يدفعوا إليه، أي: يعطوه، على سبيل الظلم.

خطبة النبي (ص) بالمسجد النبوي

قال ابن إسحاق: وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبدالرحمن - نعوذ بالله أن نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل - أنه قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فقدموا لأنفسكم ‏‏.‏‏ تَعْلَّمُنَّ والله لَيُصعَقَنّ أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا وأفضلت عليك؟‏‏ فما قدمت لنفسك؟‏‏ فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم ‏‏.‏‏ فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجُزى الحسنة عشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى، فقال: إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، وقد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن يُنكث عهده، والسلام عليكم ‏‏.‏‏

إصابة الصحابة بحمّى المدينة

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني هشام بن عروة، وعمر بن عبدالله بن عروة، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، قالت ‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم. قالت ‏:‏ فكان أبو بكر، وعمر بن فهيرة، وبلال، مَوْليا أبي بكر، مع أبي بكر في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا االله من شدة الوعك، فدنوت من أبي بكر، فقلت له ‏:‏ كيف تجدك يا أبت ‏؟‏ فقال ‏:‏ 

كل امرىء مُصبَّح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله. 

قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ والله ما يدري أبي ما يقول. قالت ‏:‏ ثم دنوت إلى عامر ابن فهيرة، فقلت له ‏:‏ كيف تجدك يا عامر ‏؟‏ فقال ‏:‏ 

لقد وجدتُ الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه

كل امرىء مجاهد بطوقه * كالثور يحمي جلده برَوْقه

قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ والله ما يدري عامر ما يقول ‏!‏ قالت ‏:‏ وكان بلال إذا تركته الحمَّى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال ‏:‏ 

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة * بفخّ وحَوْلي إذخر وجليل، 

وهل أردنْ يوما مياه مَجِنَّة * وهل يبدون لي شامة وطفيل، 

قالت عائشة رضي الله عنها ‏:‏ فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم، فقلت ‏:‏ إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى. قالت ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، أو أشد، وبارك لنا في مُدّها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة، ومهيعة ‏:‏ الجحفة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ بطوقه، أي: بطاقته. 

وقال ابن هشام: شامة وطفيل ‏:‏ جبلان بمكة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وذكر ابن شهاب الزهري، عن عبدالله بن عمرو ابن العاصي ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة، حتى جهدوا مرضا، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا ما يصلُّون إلا وهُم قعود، قال ‏:‏ فخرج عليهم رسول الله صلى الله عيه وسلم وهم يصلون كذلك، فقال لهم ‏:‏ اعلموا أن صلاة القاعد على النِّصْف من صلاة القائم. قال ‏:‏ فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل ‏.‏

دخول النبي (ص) بعائشة رضي الله عنها

قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح. قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمى وأنا لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بي فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجرة ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك. فوثب الرجال والنساء فخرجوا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ما نحرت علي جزور، ولا ذُبِحت عليَّ شاة. حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ ابنة تسع سنين.
رواه أحمد.
وعن عائشة قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج. فوعكت فتمزق شعرى وقد وفت لي جميمة فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي فأتيتها ما أدرى ما تريد منى فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئا من ماء فمست به وجهي ورأسي، ثم أدخلتنى الدار قال فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فاسلمتنى إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
رواه البخاري.
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أريتك في المنام مرتين، أرى أنك في سرقة من حرير، ويقول هذه امرأتك. فاكشف عنها فإذا هي أنت، فأقول إن كان هذا من عند الله يمضه.
رواه البخاري.
وفي رواية: قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أريتك في المنام فيجيء بك الملك في سرقة من حرير فقال لي هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي، فقلت إن يكن هذا من عند الله يمضه. 
وفي رواية: أريتك في المنام ثلاث ليال. 
وعند الترمذي أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.

تلاحق المهاجرين إلى الرسول (ص) وفشو الإسلام بالمدينة

قال ابن إسحاق: وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق بمكة منهم أحد، إلا مفتون أو محبوس، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أهل دور مُسمَّون: بنو مظعون من بني جمح، وبنو جحش بن رئاب، حلفاء بني أمية، وبنو البكير، من بني سعد بن ليث، حلفاء بني عدي بن كعب، فإن دورهم غلقت بمكة هجرة، ليس فيها ساكن ‏‏.‏‏ ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم، عدا عليها أبو سفيان بن حرب، فباعها من عمرو بن علقمة، أخي بني عامر بن لؤي، فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم، ذكر ذلك عبدالله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترضى يا عبدالله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنة ‏‏؟‏‏ قال: بلى، قال: فذلك لك ‏‏.‏‏ فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، كلمه أبو أحمد في دارهم، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس لأبي أحمد: يا أبا أحمد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أُصيب منكم في الله عز وجل، فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول، إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بُني له فيها مسجده ومساكنه، واستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا ما كان من خطمة، وواقف، ووائل، وأمية، وتلك أوس الله، وهم حي من الأوس، فإنهم أقاموا على شركهم.

قدوم أهل النبي (ص) وأهل أبي بكر الصديق (ض)

 قال الطبري: قال ابن عمر: حدثنا موسى بن محمد بن عبد الرحمن، عن ريطة، عن عمره عن عائشة، انها سئلت: متى بنى بك رسول الله؟ فقالت: لما هاجر رسول الله ص الى المدينة خلفنا وخلف بناته، فلما قدم المدينة بعث إلينا زيد بن حارثة، وبعث معه أبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم، أخذها رسول الله من ابى بكر، يشتريان بها ما يحتاجان اليه من الظهر، وبعث أبو بكر معهما عبد الله بن أريقط الديلي ببعيرين او ثلاثة، وكتب الى عبد الله بن ابى بكر يأمره ان يحمل أهله أم رومان، وانا وأختي أسماء امرأه الزبير، فخرجوا مصطحبين فلما انتهوا الى قديد، اشترى زيد بن حارثة بتلك الخمسمائة درهم ثلاثة أبعرة، ثم دخلوا مكة جميعا، وصادفوا طلحه بن عبيد الله يريد الهجرة بال ابى بكر، فخرجنا جميعا، وخرج زيد ابن حارثة وأبو رافع وفاطمة وأم كلثوم وسوده بنت زمعه، وحمل زيد أم ايمن واسامه ابن زيد، وخرج عبد الله بن ابى بكر بأم رومان وأختيه، وخرج طلحه بن عبيد الله واصطحبا جميعا حتى إذا كنا بالبيض من تمنى نفر بعيري، وانا في محفة معي فيها أمي، فجعلت أمي تقول: وا بنتاه وا عروساه! حتى ادرك بعيرنا، وقد هبط من لفت، فسلم ثم انا قدمنا المدينة، فنزلت مع عيال ابى بكر، ونزل الى رسول الله ص ورسول الله يومئذ يبنى المسجد، وأبياتنا حول المسجد، فانزل فيها اهله، ومكثنا أياما في منزل ابى بكر، ثم قال أبو بكر: يا رسول الله ما يمنعك ان تبنى باهلك؟ قال رسول الله: الصداق، فأعطاه أبو بكر الصداق اثنى عشر أوقية ونشا، فبعث رسول الله ص إلينا وبنى بي رسول الله ص في بيتي، هذا الذى انا فيه.

قلت: ففي هذا الخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر، بعثا إلى أهليهم وقدموا عليهم وهم يبنون المسجد النبويّ.

من أدب أبي أيّوب رضي الله عنه

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبدالله اليزني، عن أبي رهم السماعي، قال: حدثني أبو أيوب، قال: لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، نزل في السَفَل، وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهرْ أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: يا أبا أيوب، إنّ أرفق بنا وبمن يغشانا، أن نكون في سفل البيت. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله، وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حُبّ لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء، تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه، قال: وكنا نصنع له العشاء، ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له بصلا أو ثوما، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر ليده فيه أثرا، قال: فجئته فزعا، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، رددت عشاءك، و لم أر فيه موضع يدك، وكنت إذا رددته علينا، تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك، نبتغي بذلك البركة، قال: إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أُناجَى، فأما أنتم فكلوه. قال: فأكلناه، ولم نصنع له تلك الشجرة بعد.

قلت: الحُبّ، وعاء يحفظ فيه الماء.


بناء المسجد النبوي الحرام

قال ابن إسحاق: فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبنى مسجدا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، ودأبوا فيه، فقال قائل من المسلمين: 

‏لئن قعدنا والنبي يعمل * لذاك منا العمل المضلِّل.

وارتجز المسلمون وهو يبنونه يقولون: 

لا عيش إلا عيش الآخره * اللهم ارحم الأنصار والمهاجره. 

فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار.

قال ابن إسحاق: فدخل عمار بن ياسر، وقد أثقلوه باللبن، فقال: يا رسول الله، قتلوني، يحملون علي ما لا يحملون ‏‏.‏‏ قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده، وكان رجلا جعدا، وهو يقول: ويح ابن سمية، ليسوا بالذين يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية ‏‏.‏‏

قلت: فكانت الفئة الباغية، معاوية وأصحابه، غفر الله لهم.

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب، حتى بُني له مسجده ومساكنه، ثم انتقل إلى مساكنه من بيت أبي أيوب، رحمة الله عليه ورضوانه ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة، أسعد بن زرارة، والمسجد يُبنى، أخذته الذبحة أو الشهقة ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بئس المَيِّت أبو أمامة، ليهود ومنافقي العرب يقولون: لو كان نبيا لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري: أنه لما مات أبو أمامة، أسعد بن زرارة، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو أمامة نقيبهم، فقالوا له: يا رسول الله، إن هذا قد كان منا حيث قد علمت، فاجعل منا رجلا مكانه يُقيم من أمرنا ما كان يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: أنتم أخوالي، وأنا بما فيكم، وأنا نقيبكم، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض، فكان من فضل بني النجار الذي يَعُدّون على قومهم، أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم ‏‏.‏‏