بيعة العقبة الأولى

قال ابن إسحاق: حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة. قال: وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب. منهم من بني النجار، ثم من بني مالك بن النجار: أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة، وعوف، ومعاذ، ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهما ابنا عفراء. ومن بني زريق بن عامر: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق. ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وهم القواقل: عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم، وأبو عبدالرحمن، وهو يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة، من بني غُصينة، من بلي، حليف لهم. ومن بني سالم بن عوف بن عمرو بن الخزرج، ثم من بني العجلان بن زيد بن غنم بن سالم: العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان. ومن بني سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، ثم من بني حرام بن كعب بن غنم بن سلمة: عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام. ومن بني سواد بن غنم بن كعب بن سلمة: قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد. وشهدها من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بني عبدالأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس: أبو الهيثم بن التَّيَّهان، واسمه مالك. ‏‏ ومن بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس: عويم بن ساعدة.

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرثد بن عبدالله اليزني، عن عبدالرحمن بن عسيلة الصنابحي، عن عبادة بن الصامت، قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. فإن وفَّيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا، فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء عذب وإن شاء غفر.

قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري، عن عائذ الله بن عبدالله الخولاني أبي إدريس، أن عبادة بن الصامت حدثه أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأُخذتم بحده في الدنيا، فهو كفارة له، وإن سُترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء عذب، وإن شاء غفر.

قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي، وأمره أن يُقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يُسمَّى المقرِىء ‏بالمدينة: مصعب. وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس، أبي أمامة.

قلت: قوله: "فكان يُسمَّى المقرِىء ‏بالمدينة: مصعب" أي: صار كل من يقرئ القرآن في المدينة، يسمونه: مصعب، فصار هذا الاسم، لقبٌ لكل من يقرئ الناس القرآن.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج، كره بعضُهم أن يؤمه بعض.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه أبي أمامة، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائد أبي، كعب بن مالك، حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة، أسعد بن زرارة.

قال: فمكث حينا على ذلك: لا يسمع الأذان للجمعة إلا‏ صلى عليه واستغفر له. قال: فقلت في نفسي: والله إن هذا بي لعجز، ألا أسأله ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة؟‏‏ قال: فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة صلى عليه واستغفر له. قال: فقلت له: يا أبت، ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟‏‏ قال: فقال: أي بني، كان أول من جـمَّع بنا بالمدينة في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، يقال له: نقيع الخضمات، قال: قلت: وكم أنتم يومئذ؟‏‏ قال: أربعون رجلا.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقب، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبدالأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس بن زيد بن عبدالأشهل ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر. قالا: على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، يومئذ سيدا قومهما من بني عبدالأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد بن معاذ لأسيد بن ‏حضير: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما. قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة، قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما متشتِّما فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟‏‏ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟‏‏ قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله‏‏!‏‏ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟‏‏ قالا له: تغتسل فتطهَّر وتُطهِّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي. ‏فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟‏‏ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك. قال: فقام سعد مغضبا مبادرا، تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره - وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان - قال: فقال له مصعب: أوتقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟‏‏ قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟‏‏ قالا: تغتسل فتطهَّر و تطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير. قال: فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبدالأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟‏‏ قالوا: سيدنا و أوصلنا وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبدالأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله، وهم من الأوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت، وهو صيفي، وكان شاعرا لهم قائدا يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق.

قال ابن إسحاق: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته، والنصر لنبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.

عرض النبي (ص) نفسه على القبائل

قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلا مستضعفين، ممن آمن به. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم، إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم الله ما بعثه به.

قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا، من لا أتهم، عن زيد بن أسلم، عن ربيعة بن عباد الديلي، أو من حدثه أبو الزناد عنه، وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد، يحدثه أبي، قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أُبين عن الله ما بعثني به. قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان، عليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه. قال: فقلت لأبي: يا أبت، من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟‏‏ قال: هذا عمه عبدالعزى بن عبدالمطلب، أبو لهب ‏‏.‏

قال ابن إسحاق: حدثنا ابن شهاب الزهري: أنه أتى كندة في منازلهم، وفيهم سيد لهم يقال له: مُليح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله بن حصين: أنه أتى كلبا في منازلهم، إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبدالله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبدالله، إن الله عز وجل قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا عن عبدالله بن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليهم ردا منهم. ‏

قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم - يقال له: بَيْحرة بن فراس: والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ‏‏؟‏‏ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، قال: فقال له: أفتُهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا!‏‏ لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه. فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السن، حتى لا يقدر أن يُوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا اليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبدالمطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلاف، هل لذُناباها من مطلب، والذي نفس فلان بيده، ما تقوَّلها إسماعيلي قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم. ‏

قال ابن هشام: فراس بن عبدالله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

قال ابن إسحاق: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسه، وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف، إلا تصدى له، فدعا إلى الله، وعرض عليه ما عنده.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، ثم الظفري عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت، أخو بني عمرو بن عوف، مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم: الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك‏‏؟‏‏ قال: مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي، فعرضها عليه، فقال له: إن هذا لكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى علي، هو هدى ونور.فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن. ‏ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قُتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بعاث.

قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحَيْسر، أنس بن رافع، مكة ومعه فتية من بني عبدالأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له ‏‏؟‏‏ فقالوا له: وما ذاك ‏‏؟‏‏ قال: أنا رسول الله بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي الكتاب. قال: ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم، وهذا والله خير مما جئتم له. قال: فيأخذ أبو الحيسر، أنس بن رافع، حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج. قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته: أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل ‏الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.

قال ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم. فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: من أنتم؟‏‏ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟‏‏ قالوا: نعم، قال: أفلا‏ تجلسون أكلمكم؟‏‏ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا.

قال ابن إسحاق: وهم - فيما ذُكِر لي -: ستة نفر من الخزرج، منهم من بني النجار - وهو تيم الله - ثم من بني مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن عمرو بن عامر: أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة، وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء.

قال ابن هشام: وعفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار.

قال ابن إسحاق: ومن بني زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق.

قال ابن هشام: ويقال: عامر بن الأزرق.

قال ابن إسحاق: ومن بني سَلِمة بن سعد بن علي بن ساردة بن تزيد ابن جشم بن الخزرج، ثم من بني سواد بن غنم بن كعب بن سلمة: قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد.

قال ابن هشام: عمرو بن سواد، وليس لسواد ابن يقال له: غنم.

قال ابن إسحاق: ومن بني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة: عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام. ومن بني عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة: جابر بن عبدالله ابن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد. فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفد جن نصيبين

 قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: ‏‏{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}.. إلى قوله تعالى: ‏‏{وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف]. وقال تبارك وتعالى: ‏‏{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ .. (1)} [الجن]. إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.

قلت: ويقال أنهم كانوا تسعة.

عن عامر، قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم. وفي رواية: إلى قوله: وآثار نيرانهم. ولم يذكر ما بعده.

رواه مسلم والترمذي.

وأما ما يروى من أن ابن مسعود كان مع النبي (ص) ليلة الجنّ، فهذا باطل، والأحاديث الواردة فيه معلولة الإسناد، والصحيح أن ابن مسعود لم يكن معه، كما ورد في الحديث الصحيح.

وقد أراد ابن قتيبة الدينوري أن يجمع بين الأخبار، فرجّح أن يكون قد سقط من حديث ابن مسعود في قوله: لا، لما سئل: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ حرف، حيث رجّح أن ابن مسعود قال: لا/ إلّا أنا. فسقط من الخبر قوله: "إلّا أنا".

قلت: وهذا باطل، يرده ما ورد في الحديث الصحيح، من أنه كان ممن خشي على النبي (ص)، من أن يكون أغتيل أو أستطير، وأنه كان ممن بات بشر ليلة بات بها قوم، وأنه كان ممن قابل النبي (ص) وهو قادم من حِراء.

ولذلك أقول: أن ما روي من الأحاديث في أن ابن مسعود كان مع النبي ليلة الجن، وما ورد في ذلك من تفاصيل غريبة، وأحاديث عجيبة، إنما هي من وضع بعض الرواة وأكاذيبهم.

ويظهر من حديث ابن مسعود، أن أولئك النفر من الجن، الذين استمعوا للنبي (ص) ببطن نخلة، عادوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإسلام، فأسلم منهم طائفة، فوفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، قد عاد من الطائف، فواعدهم الحجون.

فعن كعب الأحبار أنه قال: لما انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة، وهم: فلان وفلان وفلان والأرْد وأينان والأحقب، جاءوا قومهم منذرين، فخرجوا بعدُ وافدين إلى رسول الله (ص) وهم ثلاثمائة، فانتهوا إلى الحجون، فجاء الأحقب، فسلّم على رسول الله (ص) فقال: إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك. فواعده رسول الله (ص) لساعة من الليل بالحجون.

قلت: ويظهر لي، أن أسماء الجن، إنما هي من وضع الرواة وزياداتهم على القصص.

وما سبق يدلّ على خلط الرواة بين خبر استماع جن نصيبين، لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة، وبين خبر الجن الذين بعثهم إبليس ليعلموا له ما الأمر الذي وقع وحيل بسببه بينهم وبين استراق السمع من السماء.

والله أعلم وأحكم.

ذهاب النبي (ص) إلى الطائف

قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك!‏‏ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا. لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي -: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغَ قومَه عنه، فيُذْئِرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد ‏ إلى ظل حَبَلة من عنب، فجلس فيه. وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك! فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فيما ذكر لي - اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني‏‏؟‏‏ إلى بعيد يتجهمني؟‏‏ أم إلى عدو ملكته أمري‏‏؟‏‏ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك. قال: فلما رآه ابنا ربيعة، عتبة وشيبة، وما لقي، تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له عداس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، قال: باسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك‏‏؟‏‏ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى‏‏؟‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس، قالا له: ويلك يا عداس!‏‏ ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟‏‏ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.

قلت: وقول ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على عبدياليل بن عمرو بن عمير، هو الذي أوقع الرواة في اللبس، فإنهم لمّا لم يهتدوا إلى رجل يعرف باسم عبدياليل بن عبدكلال، ووجدوا أن الرواة ذكروا شخصاً في ثقيف اسمه عبدياليل، ظنوا أنه والد ابن عبدياليل، الذي ذكره ابن إسحاق، وبما أن لعبدياليل بن عمرو ولد اسمه كنانة، ظنوا أنه هو الشخص الي عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ليه، وهذا باطل.

أشدّ يوم لقيه النبي (ص)

وعند البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا.

قلت: وبعض المؤرخين، يزعم أن ابن عبدياليل هذا اسمه كِنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عُمير بن عوف بن عُقْدة بن غِيرَة بن عوف، وأنه كان من سادات ثقيف، وأن النبي (ص) إنما عرض نفسه عليه لما قدم الطائف، وهذا كله خلاف الحديث، فإن النبي ذكر أن اسم أبي عبدياليل هو عبدكلال، وليس عمرو، وأنه من قوم عائشة رضي الله عنها، أي: من قبيلة قريش، وليس من قبيلة ثقيف، وأنه قابله في يوم أسماه النبي (ص) يوم العقبة، وعرض نفسه عليه، ليقوم بنصرته وتأييده، فأعرض عنه، مما دفعه إلى الخروج من مكة، فلم يستفق إلّا وهو بقرن الثعالب، وهو موضع بين مكة والطائف، في صحراء تدعى البوباة، وتعرف اليوم باسم: البُهيتاء، وبها قرية صغيرة تعرف بالسيل الكبير، وهناك أرسل الله تعالى له ملك الجِبال، ليأمره في أهل مكة بما يشاء، تطييباً لخاطر النبي صلى الله عليه وسلم.

زواج النبي (ص) من سودة وعائشة رضي الله عنهما

عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكراً، وإن شئت ثيباً. قال: فمن البكر؟ قالت أحب خلق الله إليك، عائشة ابنة أبي بكر. قال: ومن الثيب؟ قالت سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك. قال: فاذهبي فاذكريهما علي. فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: انظري أبا بكر حتى يأتي. فجاء أبو بكر فقلت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة! قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة. قال: وهل تصلح له؟ إنما هي ابنة أخيه. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قال: ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي. فرجعت فذكرت ذلك له قال: انتظري، وخرج. قالت أم رومان: إن مطعم بن عدى قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه. فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي. فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصبئ صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك؟! فقال أبو بكر للمطعم بن عدي أقول هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذلك. فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعده. فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعته فزوجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين. ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة؟! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه. قالت: وددت، ادخلي إلى أبى فاذكري ذلك له، وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن قد تخلف عن الحج، فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ قالت: خولة بنت حكيم. قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة. فقال: كفء كريم، ما تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذلك. قال ادعيها إلي. فدعتها قال: أي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك، وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك به؟ قالت: نعم. قال: ادعيه لي. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه. فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج، فجاء يحثي على رأسه التراب. فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة! .. الحديث.

رواه أحمد.

وعبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب امرأة من قومه يقال لها سودة وكانت مصيبة، كان لها خمس صبية- أو ست- من بعلها مات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يمنعك مني؟ قالت والله يا نبي الله ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي، ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية. قال فهل منعك مني غير ذلك؟ قالت: لا والله، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل، صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده. قلت وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم، ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضى الله عنه.

رواه أحمد.

قال ابن كثير: وهذا يقتضي، أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة، ولكن دخوله على سودة كان بمكة.

موت أم المؤمنين خديجة (ع) وأبو طالب

قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا ‏في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام، يشكو إليها، وبهلك عمه أبي طالب، وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.

قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشا ثقله، قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فيأخذ لنا على ابن أخيه، وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا.

قال ابن إسحاق: فحدثني العباس بن عبدالله بن معبد بن عباس عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال: مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه، فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا، ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب، فجاءه، فقال: يا ابن أخي: هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم. قال: فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات، قال: تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. قال: فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب‏‏!‏‏ قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه. قال: ثم تفرقوا. فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله يا ابن أخي، ما رأيتك سألتهم شططا، قال: فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسلامه، فجعل يقول له: أي عم، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة. قال: فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، قال: يا ابن أخي، والله لولا مخافة السبة عليك وعلي بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. قال: فلما تقارب من أبي طالب الموت قال: نظر العباس إليه يحرك شفتيه، قال: فأصغى إليه بأذنه، قال: فقال: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أسمع. قال: وأنزل الله تعالى في الرهط الذين كانوا قد اجتمعوا إليه، وقال لهم ما قال، وردوا عليه ما ردوا: {‏‏‏‏ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} [ص] .. إلى قوله تعالى: ‏‏{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ (7)} - يعنون النصارى، لقولهم: ‏‏{‏‏إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ (73)} [المائدة].‏‏ - {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)} [ص]. ثم هلك أبو طالب.

قال ابن إسحاق: فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا.

قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال: لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التراب، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي يا بُنيِّة، فإن الله مانع أباك. قال: و يقول بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه، حتى مات أبو طالب.

شأن المستهزئين

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله تعالى صابرا محتسبا، مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء.وكان عظماء المستهزئين، كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، خمسة نفر من قومهم، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم. من بني أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب: الأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه به، فقال: اللهم أَعمِ بصره، وأثكله ولده. ومن بني زهرة بن كلاب: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة. ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر ابن مخزوم. ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب: العاص بن وائل بن هشام. ومن بني خزاعة: الحارث بن الطُّلاطِلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن لؤي بن ملكان. فلما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء، أنزل الله تعالى عليه: {‏‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)} [الحِجر].

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب، فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمي. ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستستقى بطنه فمات منه حبنا. ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، كان أصابه قبل ذلك بسنين، وهو يجر سبله، وذلك أنه مر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش في رجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص رجله وخرج على حمار له يريد الطائف، فربض به على شُبارقة، فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخض قيحا، فقتله.‏

قال ابن إسحاق: فلما حضرت الوليد الوفاة دعا بنيه، وكانوا ثلاثة: هشام بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد، فقال لهم: أي بني، أوصيكم بثلاث، فلا تضيعوا فيهن دمي في خزاعة فلا تَطُلُّنَّه، والله إني لأعلم أنهم منه برآء، ولكني أخشى أن تُسبوا به بعد اليوم، ورباي في ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعُقري عند أبي أُزيهر، فلا يفوتنكم به. وكان أبو أزيهر قد زوجه بنتا، ثم أمسكها عنه، فلم يُدخلها عليه حتى مات. فلما هلك الوليد بن المغيرة، وثب بنو مخزوم على خزاعة يطلبون منهم عَقْل الوليد، وقالوا: إنما قتله سهم صاحبكم - وكان لبني كعب حلف من بني عبدالمطلب بن هاشم - فأبت عليهم خزاعة ذلك، حتى تقاولوا أشعارا، وغلظ بينهم الأمر - وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلا من بني كعب بن عمرو، من خزاعة.. ثم إن الناس ترادوا وعرفوا أنما يخشى القوم السُّبة، فأعطتهم خزاعة بعض العقل، وانصرفوا عن بعض .. ثم لم ينته الجون بن أبي الجون – رجل من بني كعب من خزاعة - حتى افتخر بقتل الوليد، وذكر أنهم أصابوه، وكان ذلك باطلا. فلحق بالوليد وبولده وقومه من ذلك ‏ ما حذره.

قال ابن إسحاق: ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر، وهو بسوق ذي المجاز، وكانت عند أبي سفيان بن حرب عاتكة بنت أبي أزيهر - وكان أبو أزيهر رجلا شريفا في قومه - فقتله بعُقر الوليد الذي كان عنده، لوصية أبيه إياه، وذلك بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر، وأُصيب به من أصيب من أشراف قريش من المشركين، فخرج يزيد بن أبي سفيان، فجمع بني عبدمناف، وأبو سفيان بذي المجاز، فقال الناس: أُخفِر أبو سفيان في صهره، فهو ثائر به. فلما سمع أبو سفيان بالذي صنع ابنه يزيد - وكان أبو سفيان رجلا حليما منكرا، يحب قومه حبا ‏‏ شديدا - انحط سريعا إلى مكة، وخشي أن يكون بين قريش حدث في أبي أزيهر، فأتى ابنه وهو في الحديد، في قومه من بني عبد مناف والمطيبين، فأخذ الرمح من يده، ثم ضرب به على رأسه ضربة هده منها، ثم قال له: قبحك الله! أتريد أن تضرب قريشا بعضهم ببعض في رجل من دوس. سنؤتيهم العقل إن قبلوه، وأطفأ ذلك الأمر.

قال ابن إسحاق: ولما أسلم أهل الطائف كلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في ربا الوليد، الذي كان في ثقيف، لما كان أبوه أوصاه به.‏ فذكر لي بعض أهل العلم أن هؤلاء الآيات من تحريم ما بقي من الربا بأيدي الناس نزلن في ذلك من طلب خالد الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)} [البقرة]. إلى آخر القصة فيها.

استمرار مشركي قريش في الاستهزاء والسخرية بالنبي (ص) وأصحابه

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب، وعمار، وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين، هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق! لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا. فأنزل الله تعالى فيهم: ‏‏{‏‏وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54)} [الأنعام]‏‏.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مَبْيَعة غلام نصراني، يقال له: جبر، عبد لبني الحضرمي، فكانوا يقولون: والله ما يُعلِّم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بنى الحضرمي. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: ‏‏{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)‏‏‏‏} [النحل]‏‏.

قال ابن إسحاق: وكان العاص بن وائل السهمي - فيما بلغني - إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعوه، فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو مات لانقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله في ذلك: ‏‏{‏‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} [الكوثر].‏‏ ما هو خير لك من الدنيا وما فيها. والكوثر: العظيم.

قال ابن إسحاق: حدثني جعفر بن عمرو، عن عبدالله بن مسلم أخي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: يا رسول الله، ما الكوثر الذي أعطاك الله؟ قال: نهر كما بين صنعاء إلى أيلة، آنيته كعدد نجوم السماء، ترده طيور لها أعناق كأعناق الإبل. قال: يقول عمر بن الخطاب: إنها يا رسول الله لناعمة، قال: آكلها أنعم منها.

قال ابن إسحاق: وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره أنه قال صلى الله عليه وسلم: من شرب منه لا يظمأ أبدا.

قال ابن إسحاق: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، والأسود بن عبد يغوث، وأبيّ بن خلف، والعاص بن وائل: لو جُعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويُرى معك! فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: ‏‏{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8)} [الأنعام]‏‏.

قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - بالوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وبأبي جهل بن هشام، فهمزوه واستهزئوا به، فغاظه ذلك. فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من أمرهم: ‏‏{‏‏‏‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (10)} [الأنعام].

خبر رُكانَة مع النبي (ص)

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، قال: كان ركانة بن عبديزيد بن هاشم بن عبدالمطلب بن عبدمناف أشد قريش، فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ركانة، ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟ قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيت إن صرعتك، أتعلم أن ما أقول حق؟ قال: نعم، قال: فقم حتى أصارعك.

قال: فقام إليه ركانة يصارعه، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه، وهو لا يملك من نفسه شيئا، ثم قال: عد يا محمد، فعاد فصرعه، فقال: يا محمد، والله إن هذا للعجب، أتصرعني! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه، إن اتقيت الله واتبعت أمري، قال: ما هو؟ قال: أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني، قال: ادعها، فدعاها، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقال لها: ارجعي إلى مكانك. قال: فرجعت إلى مكانها.

قال: فذهب ركانة إلى قومه، فقال: يا بني عبدمناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فوالله ما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع.

قلت: ويقال أن الذي صارع النبي صلى الله عليه وسلم هو يزيد بن ركانه، فوهم الراوي، والذي عليه أكثر الروايات أنه ركانه، وزعم بعض الرواة أن ذلك وقع زمن الفتح، وهذا باطل، بل وقع قبل هجرة النبي، وقريش له مباعدون، لأن النبي (ص) لم يكن يقبل زمن الفتح، إلّا الإسلام، ولم يكن يخيّر الناس.


خبر أبي جهل لعنه الله مع النبي (ص)

قال ابن إسحاق: وقد كان عدو الله أبو جهل بن هشام مع عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضه إياه، وشدته عليه، يذله الله له إذا رآه.

قال ابن إسحاق: حدثني عبدالملك بن عبدالله بن أبي سفيان الثقفي، وكان واعية، قال: قدم رجل من إراش - قال ابن هشام: ويقال: إراشة - بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل، فمطله بأثمانها. فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس، فقال: يا معشر قريش، من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام، فإني ‏ رجل غريب، ابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟ قال: فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس - لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يهزءون به لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه فإنه يؤديك عليه. فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عبدالله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قِبَلَه، وأنا رجل غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه، يأخذ لي حقي منه، فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه، يرحمك الله، قال: انطلق إليه، وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قام معه. قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه، فانظر ماذا يصنع. قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: محمد، فاخرج إلي، فخرج إليه، وما في وجهه من رائحة، قد انتقع لونه، فقال: أعط هذا الرجل حقه، قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له، قال: فدخل، فخرج إليه بحقه، فدفعه إليه. قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للإراشي: الحق بشأنك، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا، فقد والله أخذ لي حقي. قال: وجاء الرجل الذي بعثوا معه، فقالوا: ويحك! ماذا رأيت؟ قال: عجبا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه، فخرج إليه وما معه روحه، فقال له: أعط هذا حقه، فقال: نعم، لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فخرج إليه بحقه، فأعطاه إياه. قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك! ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط! قال: ويحكم، والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي، وسمعت صوته، فملئت رعبا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني.ِ

إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما يرى من قومه، يبذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه. وجعلت قريش، حين منعه الله منهم، يحذّرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب.وكان الطفيل بن عمرو الدوسي يُحدِّث: أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنَّه ولا تسمعنّ منه شيئا. قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فَرقا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه. قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة. قال: فقمت منه قريبا، فأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله. قال: فسمعت كلاما حسنا. قال: فقلت في نفسي: واثُكْل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته. قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فاعرض علي أمرك. قال: فعرض علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه. قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللهم اجعل له آية. قال: فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بِثنيَّة تطلعني على الحاضر وقع نور بين عينيّ مثل المصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي، إني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم. قال: فتحول فوقع في رأس سوطي. قال: فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، قال: حتى جئتهم فأصبحت فيهم. قال: فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخا كبيرا، قال: فقلت: إليك عني يا أبت، فلست منك ولست مني، قال: ولم يابني؟ قال: قلت: أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، قال: أي بني، فديني دينك، قال: فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما عُلِّمت. قال: فذهب فاغتسل، وطهر ثيابه. قال: ثم جاء فعرضت عليه الإسلام، فأسلم.‏ قال: ثم أتتني صاحبتي، فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني، قالت: لم؟ بأبي أنت وأمي، قال: قلت: قد فرق بيني وبينك الإسلام، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، قالت: فديني دينك، قال: قلت: فاذهبي إلى حِما ذي الشَّرى فتطهري منه. قال: وكان ذو الشرى صنما لدوس، وكان الحمى حمى حموه له، وبه وَشَل من ماء يهبط من جبل. قال: فقالت: بأبي أنت وأمي، أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا، قال: قلت: لا، أنا ضامن لذلك، فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام، فأسلمت. ثم دعوت دوسا إلى الإسلام، فأبطئوا علي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقلت له: يا نبي الله، إنه قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم، فقال: اللهم اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم. قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأَسْهم لنا مع المسلمين. ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا فتح الله عليه مكة، قال: قلت: يا رسول الله، ابعثني إلى ذي الكفين، صنم عمرو بن حممة حتى أُحرقه.

قال ابن إسحاق: فخرج إليه، فجعل طفيل يوقد عليه النار ويقول ‏‏:‏‏

يا ذا الكفين لست من عُبَّادكا * ميلادنا أقدم من ميلادكا * إني حشوتُ النار في فؤادكا

قال: ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان معه بالمدينة حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما ارتدت العرب، خرج مع المسلمين، فسار معهم حتى فرغوا من طليحة، ومن أرض نجد كلها. ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة، ومعه ابنه عمرو بن الطفيل، فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة، فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي، رأيت أن رأسي حُلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتْني امرأة فأدخلتني في فرجها، وأرى ابني يطلبني حثيثا، ثم رأيته حُبس عني، قالوا: خيرا، قال: أما أنا والله فقد أولتها، قالوا: ماذا؟ قال: أما حَلْق رأسي فوضعه، وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني فرجها فالأرض تحفر لي، فأُغيَّب فيها، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني. فقُتل رحمه الله شهيدا باليمامة، وجُرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل منها، ثم قتل عام اليرموك في زمن عمر رضي الله عنه شهيدا.‏

نقض الصحيفة

قال ابن إسحاق: وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حُبيب بن نصر بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، فكان هشام لبني هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه، فكان - فيما بلغني - يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا، قد أوقره طعاما، حتى إذا أقبل به فم الشعب خلع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه، فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بزا، فيفعل به مثل ذلك.

قال ابن إسحاق: ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكانت أمه عاتكة بنت عبدالمطلب، فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت، لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا يُنكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدا، قال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها، ‏قال: قد وجدت رجلا، قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال له زهير: أبغنا رجلا ثالثا. فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، فقال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه، أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدُنهَّم إليها منكم سراعا، قال: ويحك، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال: أبغنا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: أبغنا رابعا. فذهب إلى البختري بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يُعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال: أبغنا خامسا. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم. فاتعدوا خَطْم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك. فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم، فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يُباع ولا يُبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تُشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل: وكان في ناحية المسجد: كذبت والله ولا تشق، قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت، قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به، قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها، قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قُضي بليل، تُشُوْوِرَ فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها، إلا ‏‏"باسمك اللهم". وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة. فشُلّت يده فيما يزعمون.

قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: يا عم، إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان، فقال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: نعم، قال: فوالله ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن أخي، فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم: رضينا، فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا، فإذا هي كما ‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شرا. فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.