قدوم أبي هريرة رضي الله عنه

عن أبي هريرة، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، وقدمت المدينة مهاجرا، فصليت الصبح خلف سباع بن عرفطة، كان استخلفه، فقرأ في السجدة الأولى: بسورة مريم، وفي الآخرة: ويل للمطففين، فقلت: ويلٌ لأبي، قَلَّ رجل كان بأرض الأزد إلا وكان له مكيالان، مكيال لنفسه، وآخر يبخس به الناس.

رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى، والبخاري في التاريخ الصغير.

وعن أبي هريرة أنه أتى رسول الله ﷺ وسأله - يعني أن يقسم له - فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تعطه. فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل. فقال: واعجبا لوبر تدلى من قدوم الضال.

رواه البخاري.

وعن أبي هريرة قال: بعث رسول الله ﷺ أبانا على سرية من المدينة قبل نجد. قال أبو هريرة: فقدم أبان وأصحابه على النبي ﷺ بخيبر بعد ما افتتحها، وإن حزم خيلهم لليف. قال أبو هريرة: فقلت يا رسول الله لا تقسم لهم، فقال أبان: وأنت بهذا يا وبر تحدر من رأس ضال. وقال النبي ﷺ: يا أبان اجلس. ولم يقسم لهم.

رواه البخاري.

وعن عمرو بن يحيى بن سعيد، أخبرني جدي وهو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، أن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي ﷺ فسلم عليه، فقال أبو هريرة: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل، فقال أبان لأبي هريرة: واعجبا لك يا وبر تردى من قدوم ضال، تنعي على امرء أكرمه الله بيدي، ومنعه أن يهينني بيده؟

رواه البخاري.

وعن أبي هريرة، وأنه قدم على رسول الله ﷺ بعد ما افتتح خيبر، فكلم المسلمين فأشركونا في أسهامهم.

وعن أبي هريرة قال: افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة، إنما غنمنا الإبل والبقر، والمتاع والحوائط. ثم انصرفنا مع رسول الله ﷺ إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له: مدعم أهداه له بعض بني الضبيب، فبينما هو يحط رحل رسول الله ﷺ، إذ جاءه سهم عاثر حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئا له بالشهادة. فقال رسول الله ﷺ: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا. فجاء رجل حين سمع ذلك من رسول الله ﷺ بشراك أو شراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله ﷺ: شراك أو شراكين من نار.

قلت: وقوله: "افتتحنا خيبر" .. الحديث. ليس معناه أنه كان مع من قاتل وافتتحها، لأنه قد تقدّم أنه جاء إلى خيبر بعد أن افتتحها النبي، فبما أنه مسلم، ومن افتتح خيبر هم المسلمون، شمل نفسه معهم، وهذا من عادة العرب في الإخبار.

زواج النبي من أم حبيبة

 قال ابن إسحاق: وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان ابن حرب، زوجه إياها خالد بن سعيد بن العاص، وهما بأرض الحبشة، وأصدقها النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مائة دينار، وهو الذي كان خطبها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قبله عند عبيد الله بن جحش الأسدي.

وقال الطبري: وحدثت عن محمد بن عمر، قال: ارسل رسول الله ص إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، ويبعث بها إليه مع من عنده من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة يخبرها بخطبه رسول الله ص إياها جارية له يقال لها أبرهة، فأعطتها أوضاحا لها وفتخا، سرورا بذلك، وأمرها أن توكل من يزوجها، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص، فزوجها، فخطب النجاشي على رسول الله ص، وخطب خالد فأنكح أم حبيبة، ثم دعا النجاشى بأربعمائة دينار صداقها، فدفعها إلى خالد بن سعيد، فلما جاءت أم حبيبة تلك الدنانير، قال: جاءت بها أبرهة فأعطتها خمسين مثقالا، وقالت: كنت أعطيتك ذلك، وليس بيدي شيء، وقد جاء الله عز وجل بهذا فقالت أبرهة: قد أمرني الملك الا آخذ منك شيئا، وأن أرد إليك الذي أخذت منك، فرددته وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدقت محمدا رسول الله وآمنت به، وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام. قالت: نعم، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر، فكان رسول الله ص يراه عليها وعندها فلا ينكره قالت أم حبيبة: فخرجنا في سفينتين، وبعث معنا النواتي حتى قدمنا الجار، ثم ركبنا الظهر إلى المدينة، فوجدنا رسول الله ص بخيبر، فخرج من خرج إليه، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله، فدخلت إليه، فكان يسائلني عن النجاشي، وقرأت عليه من أبرهة السلام، فرد رسول الله ص عليها، ولما جاء أبا سفيان تزويج النبي ص أم حبيبه قال: ذلك الفحل لا يقدع انفه

قدوم مهاجري الحبشة

قال ابن هشام ‏:‏وذكر سفيان بن عيينة عن الأجلح ، عن الشعبي ‏:‏ أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه ، والتزمه وقال ‏:‏ ما أدري بأيهما أنا أسر ‏:‏ بفتح خيبر ، أم بقدوم جعفر‏؟‏

وعن أبي موسى الأشعري، قال: بلغنا مخرج النبي ﷺ ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال في بضع، وإما قال في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا النبي ﷺ حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا - يعني لأهل السفينة - سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زوج النبي ﷺ زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء ابنة عميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله ﷺ منكم. فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله ﷺ يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو في أرض - البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله ﷺ، وأيم الله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت للنبي ﷺ وأسأله، ووالله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه. فلما جاء النبي ﷺ قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا، قالت: قال: «فما قلتِ له؟». قالت: قلت: كذا وكذا. قال: «ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان». قالت: فلقد رأيت أبا موسى، وأهل السفينة، يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم، مما قال لهم النبي ﷺ. قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني. وقال أبو بردة: عن أبي موسى، قال النبي ﷺ: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم بن حزام، إذا لقي العدو - أو قال الخيل - قال لهم إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم».

رواه البخاري ومسلم.

قوله: "فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة" أي: أنهم توجهوا بسفينتهم إلى الحبشة، وقد تقدّم أن أبا موسى هاجر من مكة مع من هاجر إلى الحبشة، ولكنه توجه إلى بلاد قومه بني الأشعر، وكانت مما يلي بلاد الحبشة، فأقام بها زمناً يدعو قومه إلى الإسلام، فأسلم معه بضع وخمسون، فهاجر بهم إلى الحبشة، فكانوا بها، حتى قدموا المدينة بعد أن فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم من خيبر.

وعن أبي موسى، قال: قدمنا على النبي ﷺ بعد أن افتتح خيبر، فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا.

رواه البخاري.

قلت: هذا ظنّ أبي موسى رضي الله عنه، وإلا فقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، كما سوف يأتي معنا.

رسالة النبي إلى النجاشي ملك الحبشة

قال الطبري: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: بعث رسول الله ص عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا. بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلم أنت، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ونفرا معه من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم، ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله، فقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصحي، والسلام على من اتبع الهدى. فكتب النجاشى الى رسول الله ص: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من النجاشي الأصحم بن أبجر سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو، الذي هداني إلى الإسلام أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من امر عيسى، فو رب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك بابني ارها بن الأصحم ابن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله.

بعث النبي (ص) إلى المقوقس ملك الإسكندرية

 عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، عن جده حاطب بن أبي بلتعة قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى المقوقس ملك الإسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول الله ﷺ، فأنزلني في منزله، وأقمت عنده. ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته، وقال: إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني. قال: قلت: هلم. قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ قلت: بلا هو رسول الله. قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال: فقلت: عيسى ابن مريم أليس تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى. قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، إلا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟ فقال لي: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم، هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك ببذرقة يبذرقونك إلى مأمنك. قال: فأهدى إلى رسول الله ﷺ ثلاث جوار منهم: أم إبراهيم ابن رسول الله ﷺ، وواحدة وهبها رسول الله ﷺ لأبي جهم ابن حذيفة العدوي، وواحدة وهبها رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت الأنصاري، وأرسل إليه بطرف من طرفهم.

رواه البيهقي.


بعث النبي (ص) إلى كسرى ملك الفرس

 روى البخاري من حديث الليث، عن يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ بعث بكتابه مع رجل إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه.


قال: فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله ﷺ أن يمزقوا كل ممزق.


وقال عبد الله بن وهب: عن يونس، عن الزهري، حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري، أن رسول الله ﷺ قام ذات يوم على المنبر خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: «أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم».


فقال المهاجرون: يا رسول الله أنا لا نختلف عليك في شيء أبدا فمرنا وابعثنا.


فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى فأمر كسرى بإيوانه أن يزين، ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب، فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله ﷺ أن يقبض منه.


فقال شجاع بن وهب: لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرني رسول الله ﷺ.


فقال كسرى: ادنه، فدنا فناوله الكتاب، ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة، فقرأه فإذا فيه: من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس.


قال: فأغضبه حين بدأ رسول الله ﷺ بنفسه، وصاح، وغضب، ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وهب فأخرج.


فلما رأى ذلك قعد على راحلته، ثم سار، ثم قال: والله ما أبالي على أي الطريقين أكون، إذ أديت كتاب رسول الله ﷺ.


قال ولما ذهب عن كسرى ثورة غضبه، بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتمس فلم يوجد، فطلب إلى الحيرة فسبق.


فلما قدم شجاع على النبي ﷺ أخبره بما كان من أمر كسرى، وتمزيقه لكتاب رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «مزق كسرى ملكه».


وروى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة، أن رسول الله ﷺ بعث عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فلما بلغ رسول الله ﷺ قال: «مزق ملكه».


وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن حميد، حدثنا سلمة، حدثنا ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب قال: وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس، وكتب معه:


بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وأمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإن تسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.


قال: فلما قرأه شقه وقال: يكتب إلي بهذا وهو عبدي؟!


قال: ثم كتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن، أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، رجلين من عند جلدين فليأتياني به.


فبعث باذام قهرمانه - وكان كاتبا حاسبا - بكتاب فارس وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خرخسرة، وكتب معهما إلى رسول الله ﷺ، يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى.


وقال لأبا ذويه: إيتِ بلاد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره.


فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف، فسألوه عنه فقال: هو بالمدينة.


واستبشر أهل الطائف - يعني وقريش بهما - وفرحوا وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك كفيتم الرجل.


فخرجا حتى قدما على رسول الله ﷺ فكلمه أبا ذويه فقال: شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذام يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.


ودخلا على رسول الله ﷺ وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟».


قالا: أمرنا ربنا - يعنيان كسرى -.


فقال رسول الله ﷺ: «ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقص شاربي».


ثم قال: «ارجعا حتى تأتياني غدا».


قال: وأتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، من ليلة كذا وكذا من الليل، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.


قال: فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟ أنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، فنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك باذام.


قال: «نعم أخبراه ذاك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء».


ثم أعطى خرخسرة منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.


فخرجا من عنده حتى قدما على باذام، فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأيا.


فلم ينشب باذام أن قدم عليه كتاب شيرويه أما بعد: فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم، ونحرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانطلق إلى الرجل الذي كان كسرى قد كتب فيه، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.


فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذام قال: إن هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن.


قال: وقد قال باذويه لباذام: ما كلمت أحدا أهيب عندي منه.


فقال له باذام: هل معه شرط؟


قال: لا.

بعث النبي (ص) إلى قيصر الروم

عن عبدالله بن عباس، أن أبا سفيان أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بالترجمان فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا. قال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. فوالله لولا أن يأثروا عني كذبا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده، لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: ٦٤] (آل عمران: ٦٤) » قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة! إنه يخافه ملك بني الأصفر! فما زلت موقنا أنه سيظهر، حتى أدخل الله علي الإسلام. 

رواه البخاري.

وقد نقل ابن إسحاق والبخاري وغيرهما عن الزهري، رواية مصنوعة، عن أسقف من أساقفة الشام يقال له: ابن الناطور، حذفتها لما تبيّن لي أنها مختلقة.

بعث النبي الرسل إلى الأفاق يدعون إلى الإسلام

قال ابن هشام: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الملوك رسلا من أصحابه وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام.

قال ابن هشام ‏:‏حدثني من أثق به عن أبي بكر الهذلي قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية، فقال: أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمة وكافة، فلا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم، فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟ قال: دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل، فشكا ذلك عيسى إلى الله، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً من أصحابه، وكتب معهم كتباً إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، فبعث دحية بن خليفة الكلبي، إلى قيصر ملك الروم، وبعث عبدالله بن حذافة السهمي، إلى كسرى ملك الفرس، وبعث عمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبي بلتعة، إلى المقوقس ملك الإسكندرية، وبعث عمرو بن العاص السهمي، إلى جيفر وعياد ابني الجلندي الأزديين ملكي عُمان، وبعث سليط بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي، إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن علي الحنفيين، ملكي اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي، إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين، وبعث شجاع بن وهب الأسدي، إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام.

قال ابن هشام:‏ بعث شجاع بن وهب، إلى جبلة بن الأيهم الغساني، وبعث المهاجر ابن أبي أمية المخزومي، إلى الحارث بن عبد كلال الحميري، ملك اليمن.

قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله ﷺ شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة، إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق.

قلت: اختلف الرواة في اسم ملك غسّان الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه، هل هو جبلة بن الأيهم أم المنذر بن الحارث.

قال الواقدي: وكتب معه سلام على من اتبع الهدى، وأمن به، وأدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك.

فقدم شجاع بن وهب فقرأه عليه فقال: ومن ينتزع ملكي؟ إني سأسير إليه.

غزوة خيبر وزواجه من صَفيَّة بنت حُيَيّ

قال محمد بن إسحاق ‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ، ذا الحجة وبعض المحرم ، وولي تلك الحجة المشركون ، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي ، ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكانت بيضاء ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الأسلمي، أن أباه حدثه ‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع ‏:‏ وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع ، وكان اسم الأكوع سنان ‏:‏ انزل يا ابن الأكوع ، فخذ لنا من هناتك ، قال ‏:‏ فنزل يرتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏

والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يرحمك الله. فقال عمر بن الخطاب ‏:‏ وجبت والله يا رسول الله ، لو أمتعتنا به ‏!‏ فقتل يوم خيبر شهيداً ، وكان قتله ، فيما بلغني أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل ، فكلمه كلماً شديداً ، فمات منه ؛ فكان المسلمون قد شكّوا فيه ، وقالوا ‏:‏ إنما قتله سلاحه حتى سأل ابن أخيه سلمة بن عمرو بن الأكوع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وأخبره بقول الناس ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إنه لشهيد وصلى عليه، فصلى عليه المسلمون ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني من لا أتهم ، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي ، عن أبيه ، عن أبي معتب بن عمرو ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه ، وأنا فيهم ‏:‏ قفوا ، ثم قال ‏:‏ ‏اللهم رب السماوات وما أظللن ، ورب الأرضين وما أقللن ، ورب الشياطين وما أظللن ، ورب الرياح وما أذرين ، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شر أهلها وشر ما فيها ، أقدموا بسم الله‏.‏ قال ‏:‏ وكان يقولها عليه السلام لكل قرية دخلها ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن أنس بن مالك ، قال ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح ، فإن سمع أذاناً أمسك ، وإن لم يسمع أذاناً أغار، فنزلنا خيبر ليلاً ، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أصبح لم يسمع أذاناً، فركب وركبنا معه ، فركبت خلف أبي طلحة ، وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستقبلنا عُمّال خيبر غادين ، قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم والجيش ، قالوا ‏:‏ محمد والخميس معه ‏!‏ فأدبروا هُرَّاباً ، فقال رسول الله صلى الله ليه وسلم ‏:‏ الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر ، فبنى له فيها مسجد ، ثم على الصهباء ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه ، حتى نزل بواد يقال له الرجيع ، فنزل بينهم وبين غطفان ، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر جمعوا له ، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه ، حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أمولاهم وأهليهم حساً ، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم ، فرجعوا على أعقابهم ، فأقاموا في أهليهم وأموالهم ، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر ‏.‏ وتدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال يأخذها مالاً مالا ، ويفتتحها حصناً حصنا ، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن مسلمة ، ألقيت عليه منه رحا فقتلته ، ثم القموص ، حصن بني أبي الحقيق، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا ، منهن صفية بنت حيي بن أخطب ، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وبِنْتيّ عم لها ؛ فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، وكان دحية بن خليفة الكلبي قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية ، فلما أصفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها ، وفشت السبايا من خيبر في المسلمين، وأكل المسلمون لحوم الحمر الأهلية من حمرها ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهى الناس عن أمور سماها لهم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن عمرو بن ضمرة الفزاري عن عبدالله بن أبي سليط ، عن أبيه ، قال ‏:‏ أتانا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية ، والقدور تفور بها ، فكفأناها على وجوهها ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن مكحول ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم يومئذ عن أربع ‏:‏ إتيان الحبالى من السبايا ، وعن أكل الحمار الأهلي ، وعن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن بيع المغانم حتى تقسم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني سلام بن كركرة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري ، ولم يشهد جابر خيير ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر وأذن لهم في أكل لحوم الخيل ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي مرزوق مولى تجيب ، عن حنش الصنعاني ، قال ‏:‏ غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب ، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها ‏:‏ جربة ، فقام فينا خطيباً ، فقال ‏:‏ يا أيها الناس ، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فينا يوم خيبر ، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ لا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماؤه زرع غيره ، يعني ‏:‏ إتيان الحبالى من السبايا ، ولا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها ولا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنماً حتى يقسم ، ولا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ، ولا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يزيد بن عبدالله بن قسيط ، أنه حدث عن عبادة بن الصامت قال ‏:‏ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين وتبر الفضة بالورق العين ؛ وقال ‏:‏ ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين ، وتبر الفضة بالذهب العين ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والأموال، فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدثه بعض أسلم ‏:‏ أن بني سهم من أسلم، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ‏:‏ والله يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء ؛ فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يعطيهم إياه ‏.‏ فقال ‏:‏ اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة ، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه ، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء ، وأكثرها طعاماً وودكاً ، فغدا الناس ، ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاماً وودكاً منه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح ، وحاز من الأموال ما حاز ، انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم ، وكان آخر حصون أهل خيبر افتتاحاً ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وكان شعار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ‏:‏ يا منصور أمت أمت ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن سهل بن عبدالرحمن بن سهل ، أخو بني حارثة ، عن جابر بن عبدالله ، قال ‏:‏ خرج مرحب اليهودي من حصنهم ، قد جمع سلاحه ، وهو يقول ‏:‏ من يبارز ‏؟‏ فأجابه كعب بن مالك.

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن سهل ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لهذا ‏؟‏ قال محمد بن مسلمة ‏:‏ أنا له يا رسول الله ، أنا والله الموتور الثائر ، قتل أخي بالأمس ؛ فقال ‏:‏ فقم إليه ، اللهم أعنه عليه ‏.‏ قال ‏:‏ فلما دنا أحدهما من صاحبه ، دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر ، فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه ، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها ، حتى برز كل واحد منها لصاحبه ، وصارت بينهما كالرجل القائم ، ما فيها فنن ، ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة ، فضربه ، فاتقاه بالدرقة ، فوقع سيفه فيها ، فعضت به فأمسكته ، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر ، وهو يقول ‏:‏ من يبارز ‏؟‏ فزعم هشام بن عروة، أن الزبير بن العوام خرج إلى ياسر ، فقالت أمه صفية بنت عبدالمطلب ‏:‏ يقتل ابني يا رسول الله ‏!‏ قال ‏:‏ بل ابنك يقتله إن شاء الله ‏.‏ فخرج الزبير فالتقيا ، فقتله الزبير ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني هشام بن عروة ‏:‏ أن الزبير كان إذا قيل له ‏:‏ والله إن كان سيفك يومئذ لصارماً عضباً ، قال ‏:‏ والله ما كان صارماً ، ولكني أكرهته ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي ، عن أبيه سفيان ، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع ، قال ‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه برايته - وكانت بيضاء ، فيما قال ابن هشام -‏ إلى بعض حصون خيبر ، فقاتل ، فرجع ولم يك فتح ، وقد جهد ؛ ثم بعث الغد عمر بن الخطاب ، فقاتل ، ثم رجع ولم يك فتح ، وقد جهد ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، ليس بفرار ‏.‏ قال ‏:‏ يقول سلمة ‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضوان الله عليه ، وهو أرمد ، فتفل في عينه ، ثم قال ‏:‏ خذ هذه الراية ، فامض بها حتى يفتح الله عليك ‏.‏ قال ‏:‏ يقول سلمة ‏:‏ فخرج والله بها يأنح ، يهرول هرولة ، وإنا لخلفه نتبع أثره ، حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن ، فقال ‏:‏ من أنت ‏؟‏ قال‏:‏ أنا علي بن أبي طالب ‏.‏ قال ‏:‏ يقول اليهودي ‏:‏ علوتم وما أنزل على موسى ، أو كما قال ‏.‏ قال ‏:‏ فما رجع حتى فتح الله على يديه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي ، عن بعض رجال بني سلمة عن أبي اليسر كعب بن عمرو ، قال ‏:‏ والله إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية ، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ، ونحن محاصروهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من رجل يطعمنا من هذا الغنم ‏؟‏ قال أبو اليسر ‏:‏ فقلت ‏:‏ أنا يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ فافعل ؛ قال ‏:‏ فخرجت أشتد مثل الظليم ، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً قال ‏:‏ اللهم أمتعنا به ‏.‏ قال ‏:‏ فأدركت الغنم وقد دخلت أولاها الحصن ، فأخذت شاتين من أخراها ، فاحتضنتهما تحت يدي ، ثم أقبلت بهما أشتد ، كأنه ليس معي شيء ، حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فذبحوهما فأكلوهما ‏.‏ فكان أبو اليسر من أخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلاكاً ‏.‏ فكان إذا حدث هذا الحديث بكى ، ثم قال ‏:‏ أمتعوا بي ، لعمري ، حتى كنت من أخرهم هلكاً ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص ، حصن بني أبي الحقيق ، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن أخطب ، وبأخرى معها ، فمر بهما على قتلى من قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت ، وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها ‏.‏ فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ اعزبوا عني هذه الشيطانة ، وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه ؛ فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال ، فيما بلغني ، حين رأى بتلك اليهودية ما رأى ، أنزعت منك الرحمة يا بلال ، حين تمر بامرأتين علي قتلى رجالهما ‏؟‏ وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق ، أن قمراً وقع في حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها ، فقال ‏:‏ ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمداً ، فلطم وجهها لطمة خضر عينها منها ‏.‏ فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه ، فسألها ما هو ‏؟‏ فأخبرته هذا الخبر ‏.‏ 

وعن أنس بن مالك، قال: صلى النبي ﷺ الصبح قريبا من خيبر بغلس، ثم قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. فخرجوا يسعون في السكك، فقتل النبي ﷺ المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي ﷺ، فجعل عتقها صداقها.


قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع ، وكان عنده كنز بني النضير ، فسأله عنه ، فجحد أن يكون يعرف مكانه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من يهود ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة ‏:‏ أرأيت إن وجدناه عندك ، أأقتلك ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله عما بقي ، فأبى أن يؤديه ‏.‏ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام ، فقال ‏:‏ عذبه حتى تستأصل ما عنده ، فكان الزبير يقدح بزندٍ في صدره ، حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة ، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة ‏.‏ وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم ، حتى إذا أيقنوا بالهلكة ، سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ، ففعل ‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها ‏:‏ الشق ونطاة والكتيبة وجميع حصونهم ، إلا ما كان من ذينك الحصنين ‏.‏ فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم ، وأن يحقن دماءهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعل ‏.‏ وكان فيمن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود ، أخو بني حارثة ، فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم في الأموال على النصف ، وقالوا ‏:‏ نحن أعلم بها منكم ، وأعمر لها ‏.‏ فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف ، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم ؛ فصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين ، وكانت فدك خالصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب ‏.‏ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سلام بن مشكم ، شاة مصلية وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقيل لها ‏:‏ الذراع ؛ فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ؛ فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تناول الذراع ، فلاك منها مضغة ، فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأما بشر فأساغها ‏.‏ وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ، ثم قال ‏:‏ إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ، فاعترفت ؛ فقال ‏:‏ ما حملك على ذلك ‏؟‏ قالت ‏:‏ بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت ‏:‏ إن كان ملكاً استرحت منه ، وإن كان نبياً فسيخبر ، قال ‏:‏ فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ومات بشر من أكلته التي أكل ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى ، قال ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفي فيه ، ودخلت أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده ‏:‏ يا أم بشر ، إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر ‏.‏ قال ‏:‏ فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادي القرى ، فحاصر أهله ليالي ، ثم انصرف راجعا إلى المدينة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني ثور بن يزيد ، عن سالم ، مولى عبدالله بن مطيع ، عن أبي هريرة ، قال ‏:‏ فلما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادي القرى نزلنا بها أصيلا مع مغرب الشمس ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام له ، أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي ، ثم الضبيبي ‏.‏ قال ‏:‏ فوالله إنه ليضع رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه سهم غرب فأصابه فقتله ؛ فقلنا ‏:‏ هنيئاً له الجنة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ كلا ، والذي نفس محمد بيده ، إن شملته الآن لتحترق عليه في النار ، كان غلّها من فيء المسلمين يوم خيبر ‏.‏ قال ‏:‏ فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أصبت شراكين لنعلين لي ؛ قال ‏:‏ فقال ‏:‏ يُقدّ لك مثلهما من النار ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم ، عن عبدالله بن مغفل المزني ، قال ‏:‏ أصبت من فئ خيبر جراب شحم ، فاحتملته على عاتقي إلى رحلي وأصحابي ‏.‏ قال ‏:‏ فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها ، فأخذ بناحيته وقال ‏:‏ هلم هذا تقسمه بين المسلمين ؛ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ لا والله لا أعطيكه ؛ قال ‏:‏ فجعل يجاذبني الجراب ‏.‏ قال ‏:‏ فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك ‏.‏ قال ‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً ، ثم قال لصاحب المغانم ‏:‏ لا أبا لك ، خل بينه وبينه ‏.‏ قال ‏:‏ فأرسله ، فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية ، بخيبر أو ببعض الطريق ، وكانت التي جملتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان ، أم أنس بن مالك ‏.‏ فبات بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له ، وبات أبو أيوب خالد بن زيد ، أخو بني النجار متوشحاً سيفه ، يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويطيف بالقبة ، حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رأى مكانه قال ‏:‏ ما لك يا أبا أيوب ‏؟‏ قال ‏:‏ يا رسول الله ، خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها ، وكانت حديثة عهد بكفر ، فخفتها عليك ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال ‏:‏ لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ، فكان ببعض الطريق ، قال ‏:‏ من آخر الليل ‏:‏ من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام ‏؟‏ قال بلال ‏:‏ أنا يا رسول الله أحفظه عليك ‏.‏ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل الناس فناموا ، وقام بلال يصلي ، فصلى ما شاء الله عز وجل أن يصلي ‏.‏ ثم استند إلى بعيره ، واستقبل الفجر يرمقه ، فغلبته عينه ، فنام فلم يوقظهم إلا مس الشمس ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول أصحابه هبَّ ، فقال ‏:‏ ماذا صنعت بنا يا بلال ‏؟‏ قال ‏:‏ يا رسول الله ، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ؛ قال ‏:‏ صدقت ؛ ثم اقتاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيره غير كثير ، ثم أناخ فتوضأ ، وتوضأ الناس ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ؛ فلما سلَّم أقبل على الناس فقال ‏:‏ إذ نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها ، فإن الله تبارك وتعالى يقول ‏:‏ {‏أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه].

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني ، قد أعطى ابن لقيم العبسي ، حين افتتح خيبر ، ما بها من دجاجة أو داجن وكان فتح خيبر في صفر.

قال ابن إسحاق ‏:‏ وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء من نساء المسلمين ، فرضخ لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء ، ولم يضرب لهن بسهم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني سليمان بن سحيم ، عن أمية بن أبي الصلت ، عن امرأة من بني غفار ، قد سماها لي ، قالت ‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار ، فقلن ‏:‏ يا رسول الله ، قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا ، وهو يسير إلى خيبر ، فنداوي الجرحى ، ونعين المسلمين بما استطعنا ؛ فقال ‏:‏ على بركة الله ‏.‏ قالت ‏:‏ فخرجنا معه ، وكنت جارية حدثه ، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح وأناخ ، ونزلت عن حقيبة رحله ، وإذا بها دم مني ، وكانت أول حيضة حضتها ‏.‏ قالت ‏:‏ فتقبضت إلى الناقة واستحييت ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم ، قال ‏:‏ ما لك ‏؟‏ لعلك نفست ؛ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ نعم ؛ قال ‏:‏ فأصلحي من نفسك ، ثم خذي إناء من ماء ، فاطرحي فيه ملحاً ثم اغسلي به ما أصاب الحقيبة من الدم ، ثم عودي لمركبك ‏.‏ قالت ‏:‏ فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، رضخ لنا من الفيء ، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها ، وعلقها بيده في عنقي ، فوالله لا تفارقني أبداً ‏.‏ قالت ‏:‏ فكانت في عنقها حتى ماتت ، ثم أوصت أن تدفن معها ‏.‏ قالت ‏:‏ وكانت لا تطهر من حيضة إلا جعلت في طهورها ملحاً ، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان من حديث الأسود الراعي ، فيما بلغني أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ، ومعه غنم له ، كان فيها أجيراً لرجل من يهود ‏.‏ فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أعرض علي الإسلام فعرضه عليه ، فأسلم - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحداً أن يدعوه إلى الإسلام ، ويعرضه عليه - فلما أسلم قال ‏:‏ يا رسول الله ، إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم ، وهي أمانة عندي ، فكيف أصنع بها ‏؟‏ قال ‏:‏ اضرب في وجوهها فإنها سترجع إلى ربها - أو كما قال - فقال الأسود ، فأخذ حفنة من الحصى ، فرمى بها في وجوهها ، وقال ‏:‏ ارجعي إلى صاحبك ، فوالله لا أصحبك أبداً ، فخرجت مجتمعة ، كأن سائقاً يسوقها ، حتى دخلت الحصن ، ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين ، فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ‏.‏ فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضع خلفه ، وسجي بشملة كانت عليه ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه نفر من أصحابه ، ثم أعرض عنه ، فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، لم أعرضت عنه ‏؟‏ قال ‏:‏ إن معه الآن زوجتيه من الحور العين ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وأخبرني عبدالله بن أبي نجيح أنه ذكر له ‏:‏ أن الشهيد إذا ما أصيب تدلت له زوجتاه من الحور العين ، عليه تنفضان التراب عن وجهه ، وتقولان ‏:‏ تَرَّب الله وجه من تربك ، وقتل من قتلك ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما فتحت خيبر ، كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده ، له منها معرض بن الحجاج ومال متفرق في تجار أهل مكة ، فأذن لي يا رسول الله ؛ فأذن له ، قال ‏:‏ إنه لا بد لي يا رسول الله من أن أقول ؛ قال ‏:‏ قل ‏.‏ قال الحجاج ‏:‏ فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثَنِيَّة البيضاء رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار ، ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر ، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ، ريفا ومنعة ورجالاً ، فهم يتحسسون الأخبار ، ويسألون الركبان ، فلما رأوني قالوا ‏:‏ الحجاج بن علاط - قال ‏:‏ ولم يكونوا علموا بإسلامي عنده والله الخبر - أخبرنا يا أبا محمد ، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر ، وهي بلد يهود وريف الحجاز ‏.‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم ؛ قال ‏:‏ فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون ‏:‏ إيه يا حجاج ؛ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط ، وأسر محمد أسراً ، وقالوا ‏:‏ لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة ، فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم ‏.‏ قال ‏:‏ فقاموا وصاحوا بمكة ، وقالوا ‏:‏ قد جاءكم الخبر ، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم ، فيقتل بين أظهركم ‏.‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي ، فإني أريد أن أقدم خيبر ، فأصيب من فُلِّ محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ قال ‏:‏ فقاموا فجمعوا لي مالي كأحث جمع سمعت به ‏.‏ قال ‏:‏ وجئت صاحبتي فقلت ‏:‏ مالي ، وقد كان لي عندها مال موضوع ، لعلي ألحق بخيبر ، فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار ‏.‏ قال ‏:‏ فلما سمع العباس بن عبدالمطلب الخبر ، وجاءه عني ، أقبل حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجار ، فقال ‏:‏ يا حجاج ، ما هذا الخبر الذي جئت به ‏؟‏ قال ‏:‏ فقلت ‏:‏ وهل عندك حفظ لما وضعت عندك ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم قال ‏:‏ قلت ‏:‏ فاستأخر عني حتى ألقاك على خلاء ، فأني في جمع مالي كما ترى ، فانصرف عني حتى أفرغ ‏.‏ قال ‏:‏ حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة ، وأجمعت الخروج ، لقيت العباس ، فقلت ‏:‏ احفظ علي حديثي يا أبا الفضل ، فإني أخشى الطلب ثلاثاً ، ثم قل ما شئت ، قال ‏:‏ افعل ‏.‏ قلت ‏:‏ فإني والله لقد تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم ، يعني ‏:‏ صفية بنت حيي ، ولقد افتتح خيبر ، وانتثل ما فيها ، وصارت له ولأصحابه ؛ فقال ‏:‏ ما تقول يا حجاج ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ إي والله ، فاكتم عني ، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي ، فرقا من أن أغلب عليه ، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك ، فهو والله على ما تحب، قال ‏:‏ حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له ، وتخلق ، وأخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى الكعبة ، فطاف بها ، فلما رأوه قالوا ‏:‏ يا أبا الفضل ، هذا والله التجلد الحر المصيبة ؛ قال ‏:‏ كلا والله الذي حلفتم به ، لقد افتتح محمد خيبر وتُرِك عروساً على بنت ملكهم ، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه ؛ قالوا ‏:‏ من جاءك بهذا الخبر ‏؟‏ قال ‏:‏ الذي جاءكم بما جاءكم به ، ولقد دخل عليكم مسلماً ، فأخذ ماله ، فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه ، فيكون معه ؛ قالوا ‏:‏ يا لعباد الله ‏!‏ انفلت عدو الله ، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن ؛ قال ‏:‏ ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكانت المقاسم على أقوال خيبر ، على الشق ونطاة والكتيبة فكانت الشق ونطاة في سهمان المسلمين ، وكانت الكتيبة خمس الله ، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين ، وطعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل فدك بالصلح ، منهم محيصة بن مسعود ، أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين وسقاً من شعير ، وثلاثين وسقاً من تمر ، وقسمت خيبر على أهل الحديبية ، من شهد خيبر ، ومن غاب عنها ، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام ، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضرها ، وكان وادياها ، وادي السريرة ووادي خاص ، وهما اللذان قسمت عليهما خيبر ، وكانت نطاة والشق ثمانية عشر سهماً ، نطاة من ذلك خمسة أسهم ، والشق ثلاثة عشر سهماً ، وقسمت الشق ونطاة على ألف سهم ، وثمان مائة سهم ‏.‏ وكانت عدة الذين قسمت عليهم خيبر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف سهم وثمان مائة سهم ، برجالهم وخيلهم ، الرجال أربع عشرة مائة ، والخيل مئتا فارس ؛ وكان لكل فرس سهمان ، ولفارسه سهم ؛ وكان لكل راجل سهم ؛ فكان لكل سهم رأس جمع إليه مائة رجل ، فكانت ثمانية عشر سهماً جمع ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فكان علي بن أبي طالب رأساً ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله وعمر بن الخطاب ، وعبدالرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي ، أخو بني العجلان ، وأسيد بن حضير ، وسهم الحارث بن الخزرج ، وسهم ناعم ، وسهم بني بياضة ، وسهم بني عبيد ، وسهم بني حرام من بني سلمة ، وعبيد السهام ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ وإنما قيل له عبيد السهام لما اشترى من السهام يوم خيبر ، وهو عبيد بن أوس ، أحد بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وسهم ساعدة ، وسهم غفار وأسلم ، وسهم النجار وسهم حارثة ، وسهم أوس ‏.‏ فكان أول سهم خرج من خيبر بنطاة سهم الزبير بن العوام ، وهو الخوع ، وتابعه السرير ؛ ثم كان الثاني سهم بياضه ، ثم كان الثالث سهم أسيد ثم كان الرابع سهم بني الحارث بن الخزرج ، ثم كان الخامس سهم ناعم لبني عوف بن الخزرج ومزينة وشركائهم ، وفيه قتل محمود بن مسلمة ؛ فهذه نطاة ‏.‏ ثم هبطوا إلى الشق ، فكان أول سهم خرج منه سهم عاصم بن عدي ، أخي بني العجلان ، ومعه كان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سهم عبدالرحمن بن عوف ، ثم سهم ساعدة ، ثم سهم النجار ، ثم سهم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ‏.‏ ثم سهم طلحة بن عبيد الله ، ثم سهم غفار وأسلم ، ثم سهم عمر بن الخطاب ، ثم سهما سلمة بن عبيدة وبني حرام ، ثم سهم حارثة ، ثم سهم عبيد السهام ، ثم سهم أوس ، وهو سهم اللفيف ، جمعت إليه جهينة ومن حضر خيبر من سائر العرب ؛ وكان حذوه سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي كان أصابه في سهم عاصم بن عدي ‏.‏ ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتيبة ، وهي وادي خاص بين قرابته وبين نسائه ، وبين رجال المسلمين ونساء أعطاهم منها ، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة ابنته مائتي وسق ، ولعلي بن أبي طالب منه مائة وسق ، ولأسامة بن زيد مائتي وسق ، وخمسين وسقاً من نوى ‏.‏ ولعائشة أم المؤمنين مائتي وسق ، ولأبي بكر بن أبي قحافة مائة وسق ، ولعقيل بن أبي طالب مائة وسق وأربعين وسقاً ، ولبني جعفر خمسين وسقاً ، ولربيعة بن الحارث مائة وسق ‏.‏ وللصلت بن مخرمة وابنيه مائة وسق ، للصلت منها أربعون وسقاً ، ولأبي نبقة خمسين وسقاً ، ولركانه بن عبد يزيد خمسين وسقاً ، ولقيس بن مخرمة ثلاثين وسقاً ، ولأبي القاسم بن مخرمة أربعين وسقاً ، ولبنات عبيدة بن الحارث وابنة الحصين بن الحارث مائة وسق ، ولبني عبيد بن عبد يزيد ستين وسقاً ، ولابن أوس بن مخرمة ثلاثين وسقاً ‏.‏ ولمسطح بن أثاثة وابن إلياس خمسين وسقاً ، ولأم رميثة أربعين وسقاً ، ولنعيم بن هند ثلاثين وسقاً ، ولبحينة بنت الحارث ثلاثين وسقاً ، ولعجير بن عبد يزيد ثلاثين وسقاً ، ولأم الحكم ثلاثين وسقاً ، ولجمانة بنت أبي طالب ثلاثين وسقاً ، ولابن الأرقم خمسين وسقاً ، ولعبدالرحمن بن أبي بكر أربعين وسقاً ‏.‏ ولحمنة بنت جحش ثلاثين وسقاً ، ولأم الزبير أربعين وسقاً ، ولضباعة بنت الزبير أربعين وسقاً ، ولابن أبي خنيس ثلاثين وسقاً ، ولأم طالب أربعين وسقاً ، ولأبي بصرة عشرين وسقاً ، ولنميلة الكلبي خمسين وسقاً ، ولعبدالله بن وهب وابنتيه تسعين وسقاً ، لابنيه منها أربعين وسقاً ، ولأم حبيب بنت جحش ثلاثين وسقاً ، ولملكوم بن عبدة ثلاثين وسقاً ، ولنسائه صلى الله عليه وسلم سبع مائة وسق ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود قال ‏:‏ لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته إلا بثلاث ، أوصى للرهاويين بحاد مائة وسق من خيبر ، وللداريين بحاد مائة وسق من خيبر ، وللسبائيين ، وللأشعريين بحاد مائة وسق من خيبر ‏.‏ وأوصى بتنفيذ بعث أسامة بن زيد بن حارثة ؛ وألا يترك بجزيرة العرب دينان ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك ، حين بلغهم ما أوقع الله تعالى بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك ، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطائف ، أو بعد ما قدم المدينة ، فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ‏.‏

 قال ابن إسحاق: تسمية النفر الداريين الذين أوصى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وهم بنو الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لحم ، الذين ساروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام ‏:‏ تميم بن أوس، ونعيم بن أوس أخوه ، ويزيد بن قيس ، وعرفة بن مالك ، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ عزة بن مالك.

قال ابن إسحاق: وأخوه مران بن مالك ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ مروان بن مالك ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وفاكه بن نعمان ، وجبلة بن مالك ، وأبو هند بن بر ، وأخوه الطيب بن بر ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله ‏.‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما حدثني عبدالله بن أبي بكر يبعث إلى أهل خيبر عبدالله بن رواحة خارصاً بين المسلمين ويهود ، فيخرص عليهم ، فإذا قالوا ‏:‏ تعديت علينا ، قال ‏:‏ إن شئتم فلكم ، وإن شئتم فلنا ، فتقول يهود ‏:‏ بهذا قامت السماوات والأرض ‏.‏ وإنما خرص عليهم عبدالله بن رواحة عاماً واحداً ، ثم أصيب بمؤتة يرحمه الله ، فكان جبار بن صخر بن أمية بن خنساء ، أخو بني سلمة ، هو الذي يخرص عليهم بعد عبدالله بن رواحة ‏.‏ فأقامت يهود على ذلك ، لا يرى بهم المسلمون بأساً في معاملتهم ، حتى عدوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن سهل ، أخي بني حارثة ، فقتلوه ، فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عليه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني الزهري عن سهل بن أبي حثمة ؛ وحدثني أيضاً بشير بن يسار ، مولى بني حارثة ، عن سهل بن أبي حثمة ، قال ‏:‏ أصيب عبدالله بن سهل بخيبر ، وكان خرج إليها في أصحاب له يمتار منها تمراً ، فوُجِد في عَينٍ قد كُسِرت عنقه ، ثم طرح فيها ‏.‏ قال ‏:‏ فأخذوه فغيبوه ، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له شأنه ، فتقدم إليه أخوه عبدالرحمن بن سهل ، ومعه ابنا عمه حويصة ومحيصة ابنا مسعود ، وكان عبدالرحمن من أحدثهم سناً ، وكان صاحب الدم ، وكان ذا قدم في القوم ، فلما تكلم قبل ابني عمه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الكبر الكبر ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ كبر كبر - فيما ذكر مالك بن أنس - .

قال ابن إسحاق: فسكت ؛ فتكلم حويصة ومحيصة ، ثم تكلم هو بعد ، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قتل صاحبهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أتسمون قاتلكم ، ثم تحلفون عليه خمسين يميناً فنسلمه إليكم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ يا رسول الله ما كنا لنحلف على ما لا نعلم ؛ قال ‏:‏ أفيحلفون بالله خمسين يميناً ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً ثم يبرءون من دمه ‏؟‏ قالوا ‏:‏ يا رسول الله ، ما كنا لنقبل أيمان يهود ، ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم ، قال ‏:‏ فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده مائة ناقة ‏.‏ قال سهل ‏:‏ فوالله ما أنسى بكرة منها حمراء ضربتني وأنا أحوزها ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن عبدالرحمن بن بجيد بن قيظي ، أخي بني حارثة ، قال محمد بن إبراهيم ‏:‏ وأيم الله ، ما كان سهل بأكثر علماً منه ، ولكنه كان أسن منه ؛ إنه قال له ‏:‏ والله ما هكذا كان الشأن ‏!‏ ولكن سهلاً أوهم ، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، احلفوا على ما لا علم لكم به ‏.‏ ولكنه كتب إلى يهود خيبر حين كلمته الأنصار ‏:‏ أنه قد وجد قتيل بين أبياتكم فأدُّوه ، فكتبوا إليه يحلفون بالله ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلاً ، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده ‏.‏

قال بن إسحاق ‏:‏ وحدثثي عمرو بن شعيب مثل حديث عبدالرحمن بن بجيد ، إلا أنه قال في حديثه ‏:‏ أدُّوه أو ائذنوا بحرب ‏.‏ فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً ؛ فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وسألت ابن شهاب الزهري ‏:‏ كيف كان إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر نخلهم ، حين أعطاهم النخل على خرجها ، أبت ذلك لهم حتى قبض ، أم أعطاهم إياها للضرورة من غير ذلك ‏.‏ فأخبرني ابن شهاب ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال ، وكانت خيبر مما أفاء الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسمها بين المسلمين ، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال ‏.‏ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها ، وتكون ثمارها بيننا وبينكم ، وأقركم ما أقركم الله ، فقبلوا ، فكانوا على ذلك يعملونها ‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبدالله بن رواحة ، فيقسم ثمرها ، ويعدل عليهم في الخرص ..

صلح الحديبية

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوالا ، وخرج في ذي القعدة معتمرا ، لا يريد حربا ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ واستنفر العربَ ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا ، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا ‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا ، وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر ‏.‏ وكان جابر بن عبدالله ، فيما بلغني ، يقول ‏:‏ كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة ‏.‏

قال الزهري ‏:‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي - قال ابن هشام ‏:‏ ويقال بُسْر - فقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذه قريش ، قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل - العوذ هن النوق، ومفردها عائذ، والمطافيل، أي: التي معها أطفالها، خرجوا بهن ليتزوّدوا بألبانها - قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدَّموها إلى كُراع الغَميم ‏.‏ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا ويح قريش ‏!‏ لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة ‏.‏ ثم قال ‏:‏ من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها ‏؟‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن رجلاً من أسلم قال ‏:‏ أنا يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل بين شعاب ، فلما خرجوا منه ، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ‏:‏ قولوا نستغفر الله ونتوب إليه ؛ فقالوا ذلك ، فقال ‏:‏ والله إنها للحِطّة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها ‏.‏

قال ابن شهاب ‏:‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال ‏:‏ اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش ، في طريق ‏تخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة ؛ قال ‏:‏ فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا سلك ، في ثنية المرار بركت ناقته ‏.‏ فقالت الناس ‏:‏ خلأت الناقة ، قال ‏:‏ ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ‏.‏ ثم قال للناس ‏:‏ انزلوا قيل له ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ ما بالوادي ماء ننزل عليه ، فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب ‏.‏ فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم ‏:‏ أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر بن دارم بن عمرو بن وائلة بن سهم بن مازن بن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة ، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ أفصى بن حارثة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد زعم لي بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول ‏:‏ أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالله أعلم أي ذلك كان ‏.‏ فقال الزهري في حديثه ‏:‏ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ، في رجال من خزاعة ، فكلموه وسألوه ‏:‏ ما الذي جاء به ‏؟‏ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حرباً ، وإنما جاء زائراً البيت ، ومعظماً لحرمته ، ثم قال لهم نحواً مما قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا ‏:‏ يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، إن محمداً لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائراً هذا البيت ، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا ‏:‏ وإن كان جاء ولا يريد قتالاً ، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً ، ولا تحدث بذلك عنا العرب ‏.‏ قال الزهري ‏:‏ وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة ‏.‏ قال ‏:‏ ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف ، أخا بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال ‏:‏ هذا رجل غادر ؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً مما قال لبديل وأصحابه ؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان ، وكان يومئذ سيد الأحابيش ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إن هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رآى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى ، فقال لهم ذلك ‏.‏ قال ‏:‏ فقالوا له ‏:‏ اجلس ، فإنما أنت أعرابي لا علم لك ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن الحليس غضب عند ذلك وقال ‏:‏ يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ‏.‏ أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له ‏!‏ والذي نفس الحليس بيده ، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد ‏.‏ قال ‏:‏ فقالوا له ‏:‏ مه ، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به ‏.‏ قال الزهري في حديثه ‏:‏ ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي ؛ فقال ‏:‏ يا معشر قريش ، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد - وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس - وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي ؛ قالوا ‏:‏ صدقت ما أنت عندنا بمتهم ‏.‏ فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بين يديه ، ثم قال ‏:‏ يا محمد أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وأيم الله ، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً ‏.‏ قال ‏:‏ وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ؛ فقال ‏:‏ امصص بظر اللات ، أنحن نتكشف عنه ‏؟‏ قال ‏:‏ من هذا يا محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ هذا ابن أبي قحافة ؛ قال ‏:‏ أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها ‏.‏ قال ‏:‏ ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، قال ‏:‏ والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد ‏.‏ قال ‏:‏ فجعل يقرع يده إذ تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول ‏:‏ اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك ؛ قال ‏:‏ فيقول عروة ‏:‏ ويحك ‏!‏ ما أفظك وأغلظك ‏!‏ قال ‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له عروة ‏:‏ من هذا يا محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ؛ قال ‏:‏ أي غدر ، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك ، من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف ‏:‏ بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية ، وأصلح ذلك الأمر ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ قال الزهري ‏:‏ فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوٍ مما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه ‏.‏ ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش ، فقال ‏:‏ يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً ، فروا رأيكم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له يقال له الثعلب ، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس ‏:‏ أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً ، فأُخِذُوا أخذاً ، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل ‏.‏ ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال ‏:‏ يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان ‏.‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ، ومعظماً لحرمته ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ‏:‏ إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ؛ فقال ‏:‏ ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل ‏:‏ لا نبرح حتى نناجز القوم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة ‏.‏ فكانت بيعه الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون ‏:‏ بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، وكان جابر بن عبدالله يقول ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر ‏.‏ فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها ، إلا الجد بن قيس ، أخو بني سلمة ، فكان جابر بن عبدالله يقول ‏:‏ والله لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته ‏.‏ قد ضبأ إليها ، يستتر بها من الناس ‏.‏ ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ‏:‏ أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له ، عن ابن أبي مليكة عن ابن أبي عمر ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ قال الزهري ‏:‏ ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو ، أخا بني عامر بن لؤي ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا له ‏:‏ ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تتحدث العرب عنّا أنه دخلها علينا عنوة أبداً ‏.‏ فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً ، قال ‏:‏ قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ‏.‏ فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح ‏.‏ فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر ، فقال ‏:‏ يا أبا بكر ، أليس برسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، وألسنا بالمسلمين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أوليسوا بالمشركين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ فعلام نعطي الدنية في ديننا ‏؟‏ قال أبو بكر ‏:‏ يا عمر الزم غرزه ، فإني أشهد أنه رسول الله ؛ قال عمر ‏:‏ وأنا أشهد أنه رسول الله ‏.‏ ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ يا رسول الله ألست برسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أولسنا بالمسلمين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أوليسوا بالمشركين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ فعلام نعطي الدنية في ديننا ‏؟‏ قال ‏:‏ أنا عبدالله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعني ‏!‏ قال ‏:‏ فكان عمر يقول ‏:‏ ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق ، من الذي صنعت يومئذ ‏!‏ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً ‏.‏ قال ‏:‏ ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال ‏:‏ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ؛ قال ‏:‏ فقال سهيل ‏:‏ لا أعرف هذا ، ولكن أكتب باسمك اللهم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اكتب باسمك اللهم ، فكتبها ‏.‏ ثم قال ‏:‏ اكتب ‏:‏ هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ؛ قال ‏:‏ فقال سهيل ‏:‏ لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ؛ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وإن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ‏.‏ فتواثبت خزاعة فقالوا ‏:‏ نحن في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا ‏:‏ نحن في عقد قريش وعهدهم ، وأنك ترجع عنّا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل ، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب ، السيوف في القرب ، لا تدخلها بغيرها ‏.‏ فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمرٌ عظيم ، حتى كادوا يهلكون ‏.‏ فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ؛ ثم قال ‏:‏ يا محمد قد لجّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ؛ قال ‏:‏ صدقت ، فجعل ينتره بتلبيبه ، ويجره ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر المسلمين أَأُرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ‏؟‏ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا أبا جندل ؛ اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم ‏.‏ قال ‏:‏ فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ، ويقول ‏:‏ اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ‏.‏ قال ‏:‏ ويدني قائم السيف منه ‏.‏ قال ‏:‏ يقول عمر ‏:‏ رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ؛ فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية ‏.‏ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين ‏:‏ أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبدالرحمن بن عوف ، وعبدالله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص ، وهو يومئذ مشرك ، وعلي بن أبي طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً في الحل ، وكان يصلي في الحرم - أي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في موضع على حدود الحرم، فكانت إقامته خارج الحرم، وإذا أراد أن يصلي دخل إلى حدود الحرم فصلّى، وليس المراد بالحرم هنا المسجد الحرام، بل حدود مكّة التي حرّم الله صيدها وقطع شجرها - فلما فرغ من الصلح قدم إلى هديه فنحره ، ثم جلس فحلق رأسه ، وكان الذي حلقه ، فيما بلغني ، في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي ؛ فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال ‏:‏ حلق رجال يوم الحديبية ، وقصَّر آخرون ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يرحم الله المحلقين ، قالوا ‏:‏ والمقصرين يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ يرحم الله المحلقين ؛ قالوا ‏:‏ والمقصرين يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ والمقصرين ؛ فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ‏؟‏ قال ‏:‏ لم يَشُكُّوا ‏.‏ 

وقال عبدالله بن أبي نجيح ‏:‏ حدثني مجاهد ، عن ابن عباس ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل ، في رأسه برة من فضة ، يغيظ بذلك المشركين ‏.‏

قال الزهري في حديثه ‏:‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه ذلك قافلاً ، حتى إذا كان بين مكة والمدينة ، نزلت سورة الفتح ‏:‏ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2)} [الفتح].

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية ، وكان ممن حبس بمكة ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب فيه أزهر بن عبدعوف بن عبد بن الحارث بن زهرة ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الأزهر والأخنس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، فانطلق إلى قومك ؛ قال ‏:‏ يا رسول الله ، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني ‏؟‏ قال ‏:‏ يا أبا بصير انطلق فإن الله تعالى سيجعل ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً‏.‏ فانطلق معهما ، حتى إذا كان بذي الحليفة ، جلس إلى جدار ، وجلس معه صاحباه ، فقال أبو بصير ‏:‏ أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ‏؟‏ فقال ‏:‏ نعم. قال: أنظر إليه ‏؟‏ قال ‏:‏ انظر إن شئت ‏.‏ قال ‏:‏ فاستله أبو بصير ، ثم علاه به حتى قتله ‏.‏ وخرج المولى سريعاً حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم طالعاً قال ‏:‏ إن هذا الرجل قد رأى فزعاً ؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ ما لك ‏؟‏ قال ‏:‏ قتل صاحبكم صاحبي فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحاً بالسيف ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، وفت ذمتك ، وأدى الله عنك ، أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه ، أو يعبث بي ‏.‏ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال ‏!‏ ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص ، من ناحية ذي المروة ، على ساحل البحر ، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام ، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير ‏:‏ ‏‏ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص ، فاجتمع إليه منهم قريب من سبعين رجلاً ، وكانوا قد ضيقوا على قريش ، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ، لا تمر بهم عير إلا اقتطعوها ، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل بأرحامها إلا آواهم فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه المدينة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏أبو بصير ثقفي ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري ، أسند ظهره إلى الكعبة ، ثم قال ‏:‏ والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يُؤَدَّى هذا الرجل ؛ فقال أبو سفيان بن حرب ‏:‏ والله إن هذا لهو السفه ، والله لا يؤدّى، ثلاثاً.

حديث الإفك

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثنا الزهري ، عن علقمة بن وقاص ، وعن سعيد بن جبير ، وعن عروة بن الزبير ، وعن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ، قال ‏:‏ كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، وبعض القوم كان أوعى له من بعض ، وقد جمعت لك الذي حدثني القوم ‏.‏

قال محمد بن إسحاق ‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عن عائشة ، وعبدالله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبدالرحمن ، عن عائشة ، عن نفسها ، حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا ، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه ، وكل كان عنها ثقة ، فكلهم حدث عنها ما سمع ، قالت ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ؛ فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه ، كما كان يصنع ، فخرج سهمي عليهن معه ، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قالت ‏:‏ وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العُلَق لم يهجهن اللحم فيثقلن ، وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي ، ثم يأتي القوم الذين يرحلون لي ويحملونني ، فيأخذون بأسفل الهودج ، فيرفعونه ، فيضعونه على ظهر البعير ، فيشدونه بحباله ، ثم يأخذون برأس البعير ، فينطلقون به ‏.‏ قالت ‏:‏ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك ، وجه قافلا ، حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل ، فارتحل الناس ، وخرجت لبعض حاجتي ، وفي عنقي عقد لي ، فيه جزع ظفار ، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري ، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي ، فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل ، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلافي ، الذين كان يرحلون لي البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنون أني فيه ، كما كنت أصنع ، فاحتملوه ، فشدوه على البعير ، ولم يشكوا أني فيه ، ثم أخذوا برأس البعير ، فانطلقوا به ؛ فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، قد انطلق الناس ‏.‏ قالت ‏:‏ فتلففت بجلبابي ، ثم اضطجعت في مكاني ، وعرفت أن لو قد افتُقدت لرُجع إلي ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطَّل السلمي ، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادي ، فأقبل حتى وقف علي ، وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال ‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون ، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏!‏ وأنا متلففة في ثيابي ؛ قال ‏:‏ ما خلَّفك يرحمك الله ‏؟‏ قالت ‏:‏ فما كلمته ، ثم قرب البعير ، فقال ‏:‏ اركبي ، واستأخر عني ‏.‏ قالت ‏:‏ فركبت ، وأخذ برأس البعير ، فانطلق سريعا ، يطلب الناس ، فوالله ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ، ونزل الناس ، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي ، فقال أهل الإفك ما قالوا ، فارتج العسكر ، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك ‏.‏ ثم قدمنا المدينة ، فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ، ولا يبلغني من ذلك شيء ، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أبَوَيّ لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا ، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي ، كنت إذا اشتكيت رحمني ، ولطف بي ، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك ، فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني - قال ابن هشام ‏:‏ وهي أم رومان ، واسمها زينب بنت عبد دهمان ، أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة - قال ‏:‏ كيف تِيكم؟ لا يزيد على ذلك، قالت ‏:‏ حتى وجدت في نفسي ، فقلت ‏:‏ يا رسول الله ، حين رأيت ما رأيت من جفائه لي ‏:‏ لو أذنت لي ، فانتقلت إلى أمي ، فمرضتني ‏؟‏ قال ‏:‏ لا عليك ‏.‏ قالت ‏:‏ فانتقلت إلى أمي ، ولا علم لي بشيء مما كان ، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة ، وكنا قوما عربا ، لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم ، نعافها ونكرهها ، إنما كنا نذهب في فسح المدينة ، وإنما كانت النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن ‏.‏ فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مِسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وكانت أمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم ، خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها ؛ فقالت ‏:‏ تعس مسطح ‏!‏ ومسطح ‏:‏ لقب ، واسمه ‏:‏ عوف ؛ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا ؛ قالت ‏:‏ أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ‏؟‏ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ وما الخبر ‏؟‏ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك ، قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ أوقد كان هذا ‏؟‏ قالت ‏:‏ نعم والله لقد كان ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ، ورجعت ؛ فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي ؛ قالت ‏:‏ وقلت لأمي ‏:‏ يغفر الله لك ، تحدث الناس بما تحدثوا به ، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا ‏!‏ قالت ‏:‏ أي بنية ، خفِّضي عليك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة حسناء ، عند رجل يحبها ، لها ضرائر ، إلا كثَّرن وكثَّر الناس عليها ‏.‏ قالت ‏:‏ وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال ‏:‏ أيها الناس ، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ، ويقولون عليهم غير الحق ، والله ما علمت منهم إلا خيرا ، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا ، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي ‏.‏ قالت ‏:‏ وكان كُبرْ ذلك عند عبدالله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش ، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن من نسائه امرأة تناصيني في المنزلة عنده غيرها ؛ فأما زينب فعصمها الله تعالى بدينها فلم تقل إلا خيرا ، وأما حمنة بنت جحش ، فأشاعت من ذلك ما أشاعت ، تُضادُّني لأختها ، فشَقِيَت بذلك ‏.‏ فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة ، قال أسيد بن حضير ‏:‏ يا رسول الله ، إن يكونوا من الأوس نكفكهم ، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج ، فمرنا بأمرك ، فوالله إنهم لأهل أن تُضرب أعناقهم ؛ قالت ‏:‏ فقام سعد بن عبادة ، وكان قبل ذلك يُرى رجلا صالحا ؛ فقال ‏:‏ كذبت لعمر الله ، لا نضرب أعناقهم ، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا ، فقال أسيد ‏:‏ كذبت لعمر الله ، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين ؛ قالت ‏:‏ وتساور الناس ، حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر ‏.‏ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل علي ‏.‏ قالت ‏:‏ فدعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، و أسامة بن زيد ، فاستشارهما ؛ فأما أسامة فأثنى عليّ خيرا وقاله ؛ ثم قال ‏:‏ يا رسول الله ، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا ، وهذا الكذب والباطل ؛ وأما علي فإنه قال ‏:‏ يا رسول الله ، إن النساء لكثير ، وإنك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فإنها ستصدقك ‏.‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بُريرة ليسألها ؛ قالت ‏:‏ فقام إليها علي بن أبي طالب ، فضربها ضربا شديدا ، ويقول ‏:‏ اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قالت ‏:‏ فتقول والله ما أعلم إلا خيرا ، وما كنت أعيب على عائشة شيئا ، إلا أني كنت أعجن عجيني ، فآمرها أن تحفظه ، فتنام عنه ، فتأتي الشاة فتأكله ‏.‏ قالت ‏:‏ ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندي أبواي ، وعندي امرأة من الأنصار ، وأنا أبكي ، وهي تبكي معي ، فجلس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال ‏:‏ يا عائشة ، إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس ، فاتقي الله ، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ؛ قالت ‏:‏ فوالله ما هو إلا أن قال لي ذلك ، فقلص دمعي ، حتى ما أحس منه شيئا ، وانتظرت أبوي أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يتكلما ، قالت ‏:‏ وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي ، وأصغر شأنا من أن ينزل الله فيّ قرآنا يُقرأ به في المساجد ، ويُصلى به ، ولكني قد كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه شيئا يكذب به الله عني ، لما يعلم من براءتي ، أو يخُبر خبرا ؛ فأما قرآن ينزل فيّ ، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك ‏.‏ قالت ‏:‏ فلما لم أرى أبوي يتكلمان ، قالت ‏:‏ قلت لهما ‏:‏ ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قالت ‏:‏ فقالا ‏:‏ والله ما ندري بماذا نجيبه ؛ قالت ‏:‏ ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام ؛ قالت ‏:‏ فلما أن استعجما علي ، استعبرت فبكيت ؛ ثم قلت ‏:‏ والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا ‏.‏ والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس ، والله يعلم أني منه بريئة ، لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدِّقونني ‏.‏ قالت ‏:‏ ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره ؛ فقلت ‏:‏ ولكن سأقول كما قال أبو يوسف ‏:‏ ‏‏{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (18)} [يوسف]. قالت ‏:‏ فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشَّاه من الله ما كان يتغشاه ، فسُجِّي بثوبه ووضعت له وسادة من أُدُم تحت رأسه ، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت ، فوالله ما فزعت ولا باليت ، قد عرفت أني بريئة ، وأن الله عز وجل غير ظالمي ؛ وأما أبواي ، فوالذي نفس عائشة بيده ، ما سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما ، فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس ‏.‏ قالت ‏:‏ ثم سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس ، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات ، فجعل يمسح العرق عن جبينه ، ويقول ‏:‏ أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك ؛ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ بحمد الله ‏.‏ ثم خرج إلى الناس ، فخطبهم ، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك ، ثم أمر بمسطح بن أثاثة ، وحسَّان بن ثابت ، وحمنة بنت حجش ، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة ، فضُربوا حدَّهم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن بعض رجال بني النجار ‏:‏ أن أبا أيوب خالد بن زيد ، قالت له امرأته أم أيوب ‏:‏ يا أبا أيوب ، ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، وذلك الكذب ، أكنت يا أم أيوب فاعلة ‏؟‏ قالت ‏:‏ لا والله ما كنت لأفعله ؛ قال ‏:‏ فعائشة والله خير منك ‏.‏ قالت ‏:‏ فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال من أهل الإفك ، فقال تعالى ‏:‏ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور]. وذلك حسَّان بن ثابت وأصحابه الذين قالوا ما قالوا ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ وذلك عبدالله بن أبي وأصحابه ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ والذي تولى كبره عبدالله بن أبي ، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في هذا الحديث قبل هذا ‏.‏ ثم قال تعالى ‏:‏ {لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)} أي فقالوا كما قال أبو أيوب وصاحبته ، ثم قال ‏:‏ ‏ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} فلما نزل هذا في عائشة ، وفيمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته ‏:‏ والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا ، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة ، وأدخل علينا ؛ قالت ‏:‏ فأنزل الله في ذلك: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22)} [النور].

قال ابن إسحاق ‏:‏ قالت ‏:‏ فقال أبو بكر ‏:‏ بلى والله ، إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال ‏:‏ والله لا أنزعها منه أبدا ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم إن صفوان بن المعطَّل اعترض حسَّان بن ثابت بالسيف ، حين بلغه ما كان يقول فيه ، وقد كان حسَّان قال شعرا مع ذلك يعرّض بابن المعطل فيه ، وبمن أسلم من العرب من مضر، فاعترضه صفوان بن المعطل ، فضربه بالسيف.

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ‏:‏ أن ثابت بن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل ، حين ضرب حسَّان ، فجمع يديه إلى عنقه بحبل ، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج ؛ فلقيه عبدالله بن رواحة ، فقال ‏:‏ ما هذا ‏؟‏ قال ‏:‏ أما أعجبك ضرب حسَّان بالسيف ‏!‏ والله ما أراه إلا قد قتله ؛ قال له عبدالله بن رواحة ‏:‏ هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت ‏؟‏ قال ‏:‏ لا والله ؛ قال ‏:‏ لقد اجترأت ، أطلق الرجل ، فأطلقه ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا ذلك له ، فدعا حسَّان وصفوان بن المعطل ؛ فقال ابن المعطل ‏:‏ يا رسول الله ، آذاني وهجاني ، فاحتملني الغضب فضربته ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسَّان ‏:‏ أحسن يا حسَّان ، أَتشوَّهتَ على قومي أن هداهم الله للإسلام ، ثم قال ‏:‏ أحسن يا حسَّان في الذي أصابك ؛ قال ‏:‏ هي لك يا رسول الله ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ أبعد أن هداكم الله للإسلام ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني محمد بن إبراهيم ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه عوضا منها بيرحاء ، وهي قصر بني حُديلة اليوم بالمدينة ، وكانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدق بها على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسَّان في ضربته ، وأعطاه سيرين ، أمة قبطية ، فولدت له عبدالرحمن بن حسَّان ، قالت ‏:‏ وكانت عائشة تقول ‏:‏ لقد سئل عن ابن المعطل ، فوجدوه رجلا حصورا ، ما يأتي النساء ، ثم قتل بعد ذلك شهيدا ‏.‏

غزوة بني المصطلق وزواج النبي (ص) من جويرية بنت الحارث

قال ابن إسحاق ‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجبا ، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة ، في شعبان سنة ست ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري ؛ ويقال ‏:‏ نميلة ابن عبدالله الليثي ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق ، قالوا ‏:‏ بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم ، حتى لقيهم على ماء لهم ، يقال له ‏:‏ المريسيع ، من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحف الناس واقتتلوا ، فهزم الله بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، ونفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم ، فأفاءهم عليه ‏.‏ وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر ، يقال له ‏:‏ هشام بن صبابة ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت ، وهو يرى أنه من العدو ، فقتله خطأ ‏.‏ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له ‏:‏ جهجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني ، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الجهني ‏:‏ يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه ‏:‏ يا معشر المهاجرين ؛ فغضب عبدالله بن أبي بن سلول ، وعنده رهط من قومه فيهم ‏:‏ زيد بن أرقم ، غلام حدث ، فقال ‏:‏ أوقد فعلوها ، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أَعُدُّنَا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول ‏:‏ سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ‏.‏ ثم أقبل على من حضره من قومه ، فقال لهم ‏:‏ هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمستكم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم ‏.‏ فسمع ذلك زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب ، فقال ‏:‏ مُرْ به عباد بن بشر فليقتله ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ‏!‏ لا ولكن أذِّن بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس ‏.‏ وقد مشى عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلَّغه ما سمع منه ، فحلف بالله ‏:‏ ما قلت ما قال ولا تكلمت به - وكان في قومه شريفا عظيما - فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه ‏:‏ يا رسول الله ، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حدبا على ابن أبي بن سلول ، ودفعا عنه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ، ثم قال ‏:‏ يا نبي الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ، ما كنت تروح في مثلها ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أوما بلغك ما قال صاحبكم ‏؟‏ قال ‏:‏ و أي صاحب يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ عبدالله بن أبي ؛ قال ‏:‏ وما قال ‏؟‏ قال ‏:‏ زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال ‏:‏ فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت ، وهو والله الذليل وأنت العزيز .. ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما ، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس ، من حديث عبدالله بن أبي ‏.‏ ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع ؛ يقال له ‏:‏ بقعاء ‏.‏ فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوفوها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا تخافوها ، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار ‏.‏ فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت ، أحد بني قينقاع ، وكان عظيما من عظماء يهود ، وكهفا للمنافقين ، مات في ذلك اليوم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ‏:‏ أن عبدالله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ يارسول الله ، إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس ، فأقتله فأقتل رجلا مؤمنا بكافر ، فأدخل النار ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ بل نترفق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا ‏.‏ وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب ، حين بلغه ذلك من شأنهم ‏:‏ كيف ترى يا عمر ؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لي أقتله ، لأُرعدت له أُنُف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقَتَلَتْه ؛ قال عمر ‏:‏ قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلما ، فيما يُظهر ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، جئتك مسلما ، وجئتك أطلب دية أخي ، قتل خطأ ‏.‏ فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة ؛ فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ، ثم خرج إلى مكة مرتد.

قال ابن هشام ‏:‏ وكان شعار المسلمين يوم بني المصطلق ‏:‏ يا منصور ، أمِتْ أمت ‏.‏

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب منهم سبيا كثيرا ، فشا قسمه في المسلمين ؛ وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت ‏:‏ لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق ، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسها ، وكانت امرأة حلوة مُلاّحة ، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها ؛ قالت عائشة ‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها ، وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت ، فدخلت عليه ، فقالت ‏:‏ يا رسول الله ، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء ، ما لم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسي ، فجئتك أستعينك على كتابتي ؛ قال ‏:‏ فهل لك في خير من ذلك ‏؟‏ قالت ‏:‏ وما هو يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ أقضي عنك كتابتك و أتزوجك ؛ قالت ‏:‏ نعم يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ قد فعلت ‏.‏ قالت ‏:‏ وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، فقال الناس ‏:‏ أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرسلوا ما بأيديهم ؛ قالت ‏:‏ فلقد أُعتق بتزوجيه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ويقال ‏:‏ لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث ، وكان بذات الجيش ، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة ، وأمره بالاحتفاظ بها ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؛ فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته ؛ فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء ، فرغب في بعيرين منها ، فغيَّبهما في شعب من شعاب العقيق ، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال ‏:‏ يا محمد ، أصبتم ابنتي ، وهذا فداؤها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق ، في شعب كذا وكذا ‏؟‏ فقال الحارث ‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك محمد رسول الله ، فوالله ما اطلع على ذلك إلا الله ، فأسلم الحارث ، وأسلم معه ابنان له ، وناس من قومه ، وأرسل إلى البعيرين ، فجاء بهما ، فدفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودُفعت إليه ابنته جويرية ، فأسلمت ، وحسن إسلامها ؛ فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها ، فزوجه إياها ، وأصدقها أربعمائة درهم ‏.‏

غزوة ذي قَرَد

قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلم يُقم بها إلا ليالي قلائل ، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة ، وفيها رجل من بني غفار وامرأة له ، فقتلوا الرجل ، واحتملوا المرأة في اللِّقاح ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر ، ومن لا أتهم ، عن عبدالله بن كعب بن مالك ، كل قد حدث في غزوة ذي قَرَد بعض الحديث ‏:‏ أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي ، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله ، ومعه غلام لطلحة بن عبدالله معه فرس له يقوده ، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم ، فاشرف في ناحية سلع ، ثم صرخ ‏:‏ واصباحاه ، ثم خرج يشتد في آثار القوم ، و كان مثل السبع حتى لحق القوم ، فجعل يردهم بالنبل ، ويقول إذا رمى ‏:‏ خذها وأنا ابن الأكوع ، اليوم يوم الرُّضَّع ، فإذا وُجِّهت الخيل نحوه انطلق هاربا ، ثم عارضهم ، فإذا أمكنه الرمي رمى ، ثم قال ‏:‏ خذها وأنا ابن الأكوع ، اليوم يوم الرضع ، قال ‏:‏ فيقول قائلهم ‏:‏ أُوَيْكعنا هو أول النهار ‏.‏ قال ‏:‏ وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صياحُ ابن الأكوع ، فصرخ بالمدينة الفزع الفزع ، فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وكان أول من انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان ‏:‏ المقداد بن عمرو ، وهو الذي يقال له ‏:‏ المقداد بن الأسود ، حليف بني زهرة ؛ ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المقداد من الأنصار ، عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء ، أحد بني عبدالأشهل ؛ وسعد بن زيد ، أحد بني كعب بن عبدالأشهل ؛ وأسيد بن ظُهير ، أخو بني حارثة بن الحارث ، يُشك فيه ؛ وعُكَّاشة بن محصن ، أخو بني أسد بني خزيمة ؛ ومحُرز بن نضلة ، أخو بني أسد بن خزيمة ؛ وأبو قتادة الحارث بن ربعي ، أخو بني سلمة ؛ وأبو عياش ، وهو عبيد بن زيد بن الصامت ، أخو بني زريق ‏.‏ فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد ، فيما بلغني ، ثم قال ‏:‏ اخرج في طلب القوم ، حتى ألحقك في الناس ‏.‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني عن رجال من بني زريق ، لأبي عياش ‏:‏ يا أبا عياش ، لو أعطيت هذا الفرس رجلا ، هو أفرس منك فلحق بالقوم ‏؟‏ قال أبو عياش ‏:‏ فقلت ‏:‏ يا رسول الله ، أنا أفرس الناس ، ثم ضربت الفرس ، فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني ، فعجبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ لو أعطيته أفرس منك ، وأنا أقول ‏:‏ أنا أفرس الناس ‏.‏ فزعم رجال من بني زريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص ، أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة ، وكان ثامنا ، وبعض الناس يعد سلمة بن عمرو بن الأكوع أحد الثمانية ، ويطرح أسيد بن ظهير ، أخا بني حارثة ، والله أعلم أي ذلك كان ‏.‏ ولم يكن سلمة يومئذ فارسا ، وقد كان أول من لحق بالقوم على رجليه ‏.‏ فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة ‏:‏ أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة ، أخو بني أسد بن خزيمة - وكان يقال لمحرز ‏:‏ الأخرم ؛ ويقال له ‏:‏ قُمير - وأن الفزع لما كان جال فرس لمحمود بن مسلمة في الحائط ، حين سمع صاهلة الخيل ، وكان فرسا صنيعا جامّا ، فقال نساء من نساء بني عبدالأشهل ، حين رأين الفرس يجول في الحائط بجذع نخل هو مربوط فيه ‏:‏ يا قمير ، هل لك في أن تركب هذا الفرس ‏؟‏ فإنه كما ترى ، ثم تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ، فأعطيناه إياه ‏.‏ فخرج عليه ، فلم يلبث أن بذّ الخيل بجمامه ، حتى أدرك القوم ، فوقف لهم بين أيديهم ، ثم قال ‏:‏ قفوا يا معشر بني اللَّكيعة حتى يلحق بكم مَن وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار ‏.‏ قال ‏:‏ وحمل عليه رجل منهم فقتله ، وجال الفرس ، فلم يقدر عليه حتى وقف على آرِيِّه من بني عبدالأشهل ، فلم يُقتل من المسلمين غيره ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان اسم فرس محمود ‏:‏ ذا اللمَّة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بعض من لا أتهم عن عبدالله بن كعب بن مالك ‏:‏ أن محرزاً إنما كان على فرس لعكاشة بن محصن ، يقال له ‏:‏ الجناح ، فقُتل محرز واستُلبت الجناح ‏.‏

ولما تلاحقت الخيل قَتل أبو قتادة الحارث بن ربعي ، أخو بني سلمة ، حبيب بن عيينة بن حصن ، وغشَّاه بُرده ، ثم لحق بالناس ‏.‏ وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فإذا حبيب مسجَّى ببرد أبي قتادة ، فاسترجع الناس وقالوا ‏:‏ قتل أبو قتادة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ليس بأبي قتادة ، ولكنه قتيل لأبي قتادة ، وضع عليه برده ، لتعرفوا أنه صاحبه ‏.‏ وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا وابنه عمرو بن أوبار ، وهما على بعير واحد ، فانتظمهما بالرمح ، فقتلهما جميعا ، واستنقذوا بعض اللقاح ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد ، وتلاحق به الناس ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به ، وأقام عليه يوما وليلة ؛ وقال له سلمة بن عمرو بن الأكوع ‏:‏ يا رسول الله ، لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح ، وأخذت بأعناق القوم ‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني ‏:‏ إنهم الآن ليُغْبَقُون في غطفان ‏.‏ فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه في كل مائة رجل جزورا ، وأقاموا عليها ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا حتى قدم المدينة ‏.‏ وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر ، فلما فرغت ، قالت ‏:‏ يا رسول الله ، إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها ؛ قال ‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال ‏:‏ بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها ‏!‏ إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين ، إنما هي ناقة من إبلي ، فارجعي إلى أهلك على بركة الله ‏.‏ والحديث عن امرأة الغفاري وما قالت ، وما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أبي الزبير المكي ، عن الحسن بن أبي الحسن البصري.