غزوة ذي قَرَد

قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلم يُقم بها إلا ليالي قلائل ، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة ، وفيها رجل من بني غفار وامرأة له ، فقتلوا الرجل ، واحتملوا المرأة في اللِّقاح ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر ، ومن لا أتهم ، عن عبدالله بن كعب بن مالك ، كل قد حدث في غزوة ذي قَرَد بعض الحديث ‏:‏ أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي ، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله ، ومعه غلام لطلحة بن عبدالله معه فرس له يقوده ، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم ، فاشرف في ناحية سلع ، ثم صرخ ‏:‏ واصباحاه ، ثم خرج يشتد في آثار القوم ، و كان مثل السبع حتى لحق القوم ، فجعل يردهم بالنبل ، ويقول إذا رمى ‏:‏ خذها وأنا ابن الأكوع ، اليوم يوم الرُّضَّع ، فإذا وُجِّهت الخيل نحوه انطلق هاربا ، ثم عارضهم ، فإذا أمكنه الرمي رمى ، ثم قال ‏:‏ خذها وأنا ابن الأكوع ، اليوم يوم الرضع ، قال ‏:‏ فيقول قائلهم ‏:‏ أُوَيْكعنا هو أول النهار ‏.‏ قال ‏:‏ وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صياحُ ابن الأكوع ، فصرخ بالمدينة الفزع الفزع ، فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وكان أول من انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان ‏:‏ المقداد بن عمرو ، وهو الذي يقال له ‏:‏ المقداد بن الأسود ، حليف بني زهرة ؛ ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المقداد من الأنصار ، عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء ، أحد بني عبدالأشهل ؛ وسعد بن زيد ، أحد بني كعب بن عبدالأشهل ؛ وأسيد بن ظُهير ، أخو بني حارثة بن الحارث ، يُشك فيه ؛ وعُكَّاشة بن محصن ، أخو بني أسد بني خزيمة ؛ ومحُرز بن نضلة ، أخو بني أسد بن خزيمة ؛ وأبو قتادة الحارث بن ربعي ، أخو بني سلمة ؛ وأبو عياش ، وهو عبيد بن زيد بن الصامت ، أخو بني زريق ‏.‏ فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد ، فيما بلغني ، ثم قال ‏:‏ اخرج في طلب القوم ، حتى ألحقك في الناس ‏.‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني عن رجال من بني زريق ، لأبي عياش ‏:‏ يا أبا عياش ، لو أعطيت هذا الفرس رجلا ، هو أفرس منك فلحق بالقوم ‏؟‏ قال أبو عياش ‏:‏ فقلت ‏:‏ يا رسول الله ، أنا أفرس الناس ، ثم ضربت الفرس ، فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني ، فعجبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ لو أعطيته أفرس منك ، وأنا أقول ‏:‏ أنا أفرس الناس ‏.‏ فزعم رجال من بني زريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص ، أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة ، وكان ثامنا ، وبعض الناس يعد سلمة بن عمرو بن الأكوع أحد الثمانية ، ويطرح أسيد بن ظهير ، أخا بني حارثة ، والله أعلم أي ذلك كان ‏.‏ ولم يكن سلمة يومئذ فارسا ، وقد كان أول من لحق بالقوم على رجليه ‏.‏ فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة ‏:‏ أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة ، أخو بني أسد بن خزيمة - وكان يقال لمحرز ‏:‏ الأخرم ؛ ويقال له ‏:‏ قُمير - وأن الفزع لما كان جال فرس لمحمود بن مسلمة في الحائط ، حين سمع صاهلة الخيل ، وكان فرسا صنيعا جامّا ، فقال نساء من نساء بني عبدالأشهل ، حين رأين الفرس يجول في الحائط بجذع نخل هو مربوط فيه ‏:‏ يا قمير ، هل لك في أن تركب هذا الفرس ‏؟‏ فإنه كما ترى ، ثم تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ، فأعطيناه إياه ‏.‏ فخرج عليه ، فلم يلبث أن بذّ الخيل بجمامه ، حتى أدرك القوم ، فوقف لهم بين أيديهم ، ثم قال ‏:‏ قفوا يا معشر بني اللَّكيعة حتى يلحق بكم مَن وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار ‏.‏ قال ‏:‏ وحمل عليه رجل منهم فقتله ، وجال الفرس ، فلم يقدر عليه حتى وقف على آرِيِّه من بني عبدالأشهل ، فلم يُقتل من المسلمين غيره ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان اسم فرس محمود ‏:‏ ذا اللمَّة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بعض من لا أتهم عن عبدالله بن كعب بن مالك ‏:‏ أن محرزاً إنما كان على فرس لعكاشة بن محصن ، يقال له ‏:‏ الجناح ، فقُتل محرز واستُلبت الجناح ‏.‏

ولما تلاحقت الخيل قَتل أبو قتادة الحارث بن ربعي ، أخو بني سلمة ، حبيب بن عيينة بن حصن ، وغشَّاه بُرده ، ثم لحق بالناس ‏.‏ وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فإذا حبيب مسجَّى ببرد أبي قتادة ، فاسترجع الناس وقالوا ‏:‏ قتل أبو قتادة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ليس بأبي قتادة ، ولكنه قتيل لأبي قتادة ، وضع عليه برده ، لتعرفوا أنه صاحبه ‏.‏ وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا وابنه عمرو بن أوبار ، وهما على بعير واحد ، فانتظمهما بالرمح ، فقتلهما جميعا ، واستنقذوا بعض اللقاح ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد ، وتلاحق به الناس ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به ، وأقام عليه يوما وليلة ؛ وقال له سلمة بن عمرو بن الأكوع ‏:‏ يا رسول الله ، لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح ، وأخذت بأعناق القوم ‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني ‏:‏ إنهم الآن ليُغْبَقُون في غطفان ‏.‏ فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه في كل مائة رجل جزورا ، وأقاموا عليها ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا حتى قدم المدينة ‏.‏ وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر ، فلما فرغت ، قالت ‏:‏ يا رسول الله ، إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها ؛ قال ‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال ‏:‏ بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها ‏!‏ إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين ، إنما هي ناقة من إبلي ، فارجعي إلى أهلك على بركة الله ‏.‏ والحديث عن امرأة الغفاري وما قالت ، وما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أبي الزبير المكي ، عن الحسن بن أبي الحسن البصري.