قريش تسأل أحبار اليهود في شأنه عليه الصلاة والسلام

قال ابن إسحاق: فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث، بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل مُتقوِّل، فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه، فإنه نبي، وإن لم يفعل، فهو رجل مُتقوِّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فرَوْا فيه رأيكم. ‏ فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب؛ وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدا، ولم يستثن، فانصرفوا عنه. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون - خمس عشرة ليلة لا يحُدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمدا غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة: ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، والروح.

قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه: لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤت ظنا؛ فقال له جبريل: ‏‏{‏‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَیْنَ أَیْدِینَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَیْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّا} [مريم]‏‏. فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله، لما أنكروه عليه من ذلك، فقال: ‏‏{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا} [الكهف].‏‏ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، إنك رسول مني: أي تحقيق لما سألوه عنه من نبوتك. ‏‏{‏‏قَيِّمًا} [الكهف]. أي معتدلا، لا اختلاف فيه. ‏‏{لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ}‏‏ [الكهف]. أي عاجل عقوبته في الدنيا. وعذابا أليما في الآخرة: أي من عند ربك الذي بعث رسولا. ‏‏{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف].‏ أي دار الخلد. ‏‏{مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف].‏‏ الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. ‏‏{وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف].‏‏ يعني قريشا في قولهم: إنا نعبد الملائكة، وهي بنات الله. ‏‏{مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف]. الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. ‏‏{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبً} [الكهف]. أي لقولهم: إن الملائكة بنات الله. ‏‏{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}‏‏ [الكهف]. يا محمد ‏‏{عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف]. أي لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم، أي لا تفعل ‏‏.‏‏

قال ابن هشام: باخع نفسك، أي مهلك نفسك، فيما حدثني أبو عبيدة. 

قال ابن إسحاق: أي أيهم أتبع لأمري، وأعمل بطاعتي. ‏‏{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف]. أي الأرض، وإن ما عليها لفان وزائل، وإن المرجع إلي، فأجزي كلا بعمله، فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها ‏‏.‏‏

قال ابن هشام: الصعيد: الأرض، وجمعه: صعد ‏‏.‏‏. والصعيد أيضا: الطريق. وقد جاء في الحديث: إياكم والقعود على الصعدات. يريد الطرق. والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئا، وجمعها: أجراز. ويقال: سنة جرز، وسنون أجراز، وهي التي لا يكون فيها مطر، وتكون فيها جُدوبة ويُبْس وشدة ‏‏.‏‏.

قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية، فقال: ‏‏{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف]. أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعجب من ذلك ‏‏.‏‏

قال ابن هشام: والرقيم: الكتاب الذي رُقم فيه بخبرهم، وجمعه: رُقُم ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: ثم قال تعالى: ‏‏{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}‏‏. ثم قال تعالى: ‏‏{حْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ}‏‏ [الكهف]. أي بصدق الخبر عنهم ‏‏{حْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} ‏‏[ الكهف] أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم ‏‏.‏‏

قال ابن هشام: والشطط: الغلو ومجاوزة الحق.

{هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّ}‏‏ [الكهف].‏‏

قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة ‏‏.‏‏

{‏‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ}‏‏ [الكهف].‏‏

قال ابن هشام: تزاور: تميل، وهو من الزور.

و{‏‏تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف] تجاوزهم وتتركهم عن شمالها.

‏‏{‏‏ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّه} [الكهف].‏‏ أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب، ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم.

‏‏{‏‏مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}‏‏ [الكهف].‏‏

قال ابن هشام: الوصيد: الباب ‏‏.‏‏. والوصيد أيضا: الفناء، وجمعه: وصائد، ووصد، ووصدان، وأصد، وأصدان ‏‏.‏‏

‏‏{‏‏لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}‏‏ ‏إلى قوله: ‏‏{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ}‏‏ أهل السلطان والملك منهم: ‏‏{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}‏‏ [الكهف]. يعني أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم: ‏‏{‏‏سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف]. أي لا علم لهم. ‏‏{‏‏وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا} [الكهف]. أي لا تكابرهم. ‏‏{وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف].‏‏ فإنهم لا علم لهم بهم ‏‏.‏‏

‏‏{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف]. أي ولا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا: إني مخبركم غدا. واستثن شِيْئَة الله، واذكر ربك إذا نسيت، وقل عسى أن يهدين ربي لخير مما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. ‏‏{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف]. أي سيقولون ذلك. ‏‏{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف].‏‏ أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه ‏‏.‏‏

وقال فيما سألوه عنه من أمر الرجل الطواف: ‏‏{‏‏وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف]. حتى انتهى إلى آخر قصة خبره.

وقال تعالى فيما سألوه عنه من أمر الروح: ‏‏{‏‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء].

خبر النضر بن الحارث لعنه الله مع النبي (ص)

قال ابن إسحاق: فلما قال لهم ذلك أبو جهل، قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي ‏‏.‏‏

قال مصعب بن عبدالله: النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف.

قال ابن إسحاق: فقال: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم‏ أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم؛ وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم؛ وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه؛ وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحِيَرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسبنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش، أحسن حديثا منه، فهلم إلي، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟

قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّه} [الأنعام].

قال ابن إسحاق: وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول - فيما بلغني -: نزل فيه ثمان آيات من القرآن: قول الله عز وجل: {‏‏‏‏إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم] وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن.

خبر أبي جهل لعنه الله مع النبي (ص)

قال ابن إسحاق: فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أُطيق حمله - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم؛ قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلى، صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يـبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش، فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمَّ بي أن يأكلني ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ذلك جبريل عليه السلام، لو دنا لأخذه.

قال ابن إسحاق: وأُنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام، وما هم به: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (13) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19)} [العلق].

مفاوضة زعماء قريش للنبي (ص) وسؤالهم الآيات مجدّداً

قال ابن إسحاق: ثم ان الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة، كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير، وعن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر ابن الحارث بن كلدة، أخو بني عبدالدار، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبدالله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم. قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم؛ فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، ‏حتى جلس إليهم؛ فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا له - فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا - فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أونُعذر فيك؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فَلْيُسيـِّرْ عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. ‏فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أُرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى، حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش منا كما تلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك إلى الله، إن شاء أن يفعله بكم فعل. قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عنهم، وقام معه عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم - وهو ابن عمته، فهو لعاتكة بنت عبدالمطلب - فقال له: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم، ومنزلتك من الله، فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله، لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه. 

قال ابن إسحاق: وأنزل الله عليه فيما قال عبدالله بن أبي أمية: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا (93)} [الإسراء].

قال ابن هشام: الينبوع: ما نبع من الماء من الأرض وغيرها، وجمعه: ينابيع. والكِسَف: القطع من العذاب، وواحدته: كِسَفة، مثل سدرة وسدر. وهي أيضا: واحدة الكسف. والقبيل: يكون مقابلة ومعاينة، وهو كقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا} [الكهف] أي: عيانا ‏‏.‏‏. ويقال: القبيل: جمعه قُبُل، وهي الجماعات، وفي كتاب الله تعالى: ‏‏{وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام]. فقُبل: جمع قبيل، مثل سبل: جمع سبيل، وسرر: جمع سرير، و قمص: جمع قميص .. ويقال: إنما أريد بهذا القبيل: الفتل، فما فتل إلى الذارع فهو القبيل، وما فتل إلى أطراف الأصابع فهو الدبير، وهو من الإقبال والإدبار الذي ذكرت. ويقال: فتل المغزل. فإذا فُتل المغزل إلى الركبة فهو القبيل، وإذا فتل إلى الورك فهو الدبير. والقبيل أيضا: قوم الرجل. والزخرف: الذهب. والمزخرف: المزين بالذهب. 

قال ابن إسحاق: وأُنزل في قولهم: إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة، يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبدا: ‏‏{كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ ۚ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} [الرعد]. وأُنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام، وما هم به: ‏‏{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (13) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب (19)} [العلق].

قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم: ‏‏{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)} [سبأ].

قلت: ويظهر لي أن هذا الاجتماع، وقع بعد واقعة انشقاق القمر، وإنما سألوه ما سألوه تعنّتاً لا طلباً للحقّ، ولو فعل رسول الله تعالى، وأجابهم الله تعالى، لما صدّقوه، ولزعموا أنه سحرهم، كما فعلوا عندما شقّ لهم القمر فرقتين، ولذلك لم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما طلبوا.

انشقاق القمر

قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)} [القمر].

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشقتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشهدوا".

رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية عند مسلم: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين، فستر الجبل فلقة، وكانت فلقة فوق الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد".

وفي رواية عن البخاري: "انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فقال: اشهدوا وذهبت فرقة نحو الجبل".

وفي رواية عند البخاري: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا".

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين.

رواه مسلم.

وفي رواية عند البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما.

خبر عتبة بن ربيعة مع النبي (ص)

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنّا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون؛ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه؛ فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، أسمعْ؛ قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رَئيِّا تراه لا تستيطع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه، أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني؛ قال: أفعل؛ فقال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ: حَمِ (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} [فصِّلت]‏‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه؛ ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به؛ قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه؛ قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.


إسلام حمزة بن عبدالمطلب (ع)

قال ابن إسحاق: حدثني رجل من أسلم، كان واعية: أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره؛ فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن ‏سعد بن تيم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص له، و كان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش، وأشد شكيمة، فلما مر بالمَولاة، وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، قالت له: يا أبا عُمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام: وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم، فاحتمل حمزةَ الغضبُ لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، مُعِدّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به؛ فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرد ذلك علي إن استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل؛ فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، وتم حمزة رضي الله عنه على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

قال مصعب بن عبدالله في نسب أبي الحكم بن هشام: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وكان يكنّى أبا الحكم، فكنّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل.


استمرار قريش في أذية النبي (ص) وأصحابه

قال ابن إسحاق: ثم إن قريش اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم كفرهم ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يُظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم، وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا: فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم مر الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف، ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح. قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفَؤُه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم؛ فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم؛ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا الذي أقول ذلك. قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض آل أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه، مما جبذوه بلحيته وكان كثير الشعر ‏‏.‏‏

قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم: أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلا كذبه وآذاه، لا حر ولا عبد، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فتدثر من شدة ما أصابه، فأنزل الله تعالى عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)} [المدّثِّر].

مكر الوليد بن المغيرة

قال مصعب بن عبدالله: هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وأمه صخرة بنت الحارث بن عبد الله بن عبد شمس، من قبيلة بجيلة. وهو والد خالد بن الوليد رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سِنِّ فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا؛ قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقلْ وأقمْ لنا رأيا نقول به؛ قال: بل أنتم فقولوا أسمعْ؛ قالوا: نقول كاهن؛ قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه؛ قالوا: فنقول: مجنون؛ قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته؛ قالوا: فنقول: شاعر؛ قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر؛ قالوا: فنقول: ساحر؛ قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السُحَّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم؛ قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة و في ذلك من قوله: {‏‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)} أي: خصيما.

قال ابن هشام: عنيد: معاند مخالف.

{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)}

قال ابن هشام: بسر: كره وجهه. ‏‏

{ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدَّثِّر].

قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى: في النفر الذين كانوا معه يصنفون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به من الله تعالى: ‏‏{كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحِجر]‏‏.

قال ابن هشام: واحدة العضين: عضة، يقول: عضوه: فرقوه.

قال ابن إسحاق: فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.

أذيّة قريش للنبي (ص) وأصحابه

قال ابن إسحاق: فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها؛ فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون، وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمُّه أبو طالب، ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله، مظهرا لأمره، لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه، فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. 

قال ابن هشام: واسم أبي سفيان: صخر. 

قال ابن إسحاق: وأبو البختري، و اسمه العاص بن هشام بن الحارث ابن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. والأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وأبو جهل - واسمه عمرو، وكان يكنى أبا الحكم - بن هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي. والوليد بن المغيرة بن عبدالله ابن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي. و نُبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. والعاص بن وائل. 

قال ابن هشام: العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد بن سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي. 

قال ابن إسحاق: أو من مشى منهم. فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا؛ فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه؛ فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه، ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنـزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا له. ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدث: أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبقِ علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق؛ قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته. قال: ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى ثم قام؛ فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخي؛ قال: فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا. 

قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له - فيما بلغني -: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل؛ فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون ابدا. قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: و الله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا؛ فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك، أو كما قال. قال: فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضا ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم منهم بعمه أبي طالب، وقد قام أبو طالب، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام دونه؛ فاجتمعوا إليه، وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب، عدو الله الملعون ‏‏.‏‏

جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الإسلام

قال ابن إسحاق: ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، وأن يدعو إليه؛ وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغني - من مبعثه؛ ثم قال الله تعالى له: ‏‏{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين (94)} [الحجر] وقال تعالى: ‏‏{‏‏‏‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء].

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصعد إلى الجبل فنادى: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا تبا لك، فأنزل الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد] إلى آخرها.

رواه البخاري.

وفي رواية: لما نزلت: {‏‏‏‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم؛ أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)}.

رواه البخاري.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله: {‏‏‏‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم؛ لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا.

رواه البخاري ومسلم.

دخول الناس في الإسلام أرسالاً

قال ابن إسحاق: ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، واسمه عامر بن عبدالله بن الجراح بن هلال ابن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر. وأبو سلمة، واسمه عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر ابن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي. والأرقم بن أبي الأرقم. واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد - وكان أسد يكنى أبا جندب - بن عبدالله بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرة بن كعب بن لؤي. وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. وأخواه قدامة وعبدالله ابنا مظعون بن حبيب. وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي. وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبدالعزى بن عبدالله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي؛ وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى بن عبدالله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي ابن كعب بن لؤي، أخت عمر بن الخطاب. وأسماء بنت أبي بكر. وعائشة بنت أبي بكر، وهي يومئذ صغيرة. وخباب بن الأرت، حليف بني زهرة. 
قال ابن هشام: خباب بن الأرت من بني تميم، ويقال: هو من خزاعة. 
قال ابن إسحاق: وعمير بن أبي وقاص، أخو سعد بن أبي وقاص. وعبدالله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث ابن تميم بن سعد بن هذيل. ومسعود بن القاري، وهو مسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبدالعزى بن حمالة بن غالب بن محلم بن عائذة بن سبيع بن الهون بن خزيمة من القارة. 
قال ابن إسحاق: وسليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر؛ وأخوه حاطب بن عمرو. وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي؛ وامرأته أسماء بنت سلامة بن مخربة التميمية. وخنيس بن حذافة بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. وعامر بن ربيعة، من عنز بن وائل، حليف آل الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى. 
قال ابن إسحاق: وعبدالله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة. وأخوه أبو أحمد بن جحش، حليفا بني أمية بن عبد شمس. وجعفر بن أبي طالب؛ وامرأته أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة، من خثعم، وحاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي؛ وامرأته فاطمة بنت المجلل بن عبدالله بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر، وأخوه حطاب بن الحارث؛ وامرأته فكيهة بنت يسار. ومعمر بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. والسائب بن عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب. والمطلب بن أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي، وامرأته: رملة بنت أبي عوف بن صبيرة بن سُعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. والنحام، واسمه نُعيم بن عبدالله بن أسيد، أخو بني عدي بن كعب بن لؤي. 
قال ابن هشام: هو نعيم بن عبدالله بن أسيد بن عبد عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي، وإنما سمي النَّحَّام، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لقد سمعت نَحْمَه في الجنة. 
قال ابن هشام: نَحْمَهُ: صَوْتَهُ. و نحمه: حِسَّه. 
قال ابن إسحاق: وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. 
قال ابن هشام: عامر بن فُهيرة مولَّد من مولدي الأزد، أسود اشتراه أبو بكر رضي الله عنه منهم. 
قال ابن إسحاق: وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن مرة بن كعب بن لؤي؛ وامرأته أُمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو، من خزاعة. 
قال ابن إسحاق: وحاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر. وأبو حذيفة، واسمه مهشم - فيما قال ابن هشام - بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، حليف بني عدي بن كعب. 
قال ابن هشام: جاءت به باهلة، فباعوه من الخطاب بن نفيل، فتبناه، فلما أنزل الله تعالى: ‏‏{‏‏ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}‏‏ قال: أنا واقد بن عبدالله.
قال ابن إسحاق: وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، حلفاء بني عدي بن كعب. وعمار بن ياسر، حليف بني مخزوم بن يقظة. 
قال ابن هشام: عمار بن ياسر عنسي من مذحج. 
قال ابن إسحاق: وصهيب بن سنان، أحد النمر بن قاسط، حليف بني تيم بن مرة. 
قال ابن هشام: ويقال: صهيب: مولى عبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، ويقال: إنه رومي. فقال بعض من ذكر أنه من النمر بن قاسط، إنما كان أسيرا في أرض الروم، فاشتُري منهم. وجاء في الحديث عن النبي (ص) صلى الله عليه و سلم: صهيب سابق الروم.
قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به.ِ
قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا، ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بِلَحْي بعير، فشجه، فكان أول دم أُهريق في الإسلام.

ذكر بعض من اسلم على يد أبي بكر الصديق (ض)

قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه: أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه، محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه، ممن يغشاه ويجلس إليه.

قال: فأسلم بدعائه - فيما بلغني - عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث ابن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وسعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن مرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا.

قال ابن إسحاق: فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام، فصلوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاءه من الله.

إسلام أبي بكر الصدِّيق (ض)

قال ابن إسحاق: ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة، واسمه عتيق، واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.

قال ابن هشام: واسم أبي بكر: عبد الله، وعتيق: لقب لحسن وجهه وعتقه.

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فيما بلغني: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة، ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه.

وعن أبي الدرداء قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر، ثلاثا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين، فما أوذي بعدها.

رواه البخاري.

إسلام زيد بن حارثة مولى رسول الله (ص)

قال ابن إسحاق: ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزى ابن امرئ القيس الكلبي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب.

قلت: أي: أن عليّاً أسلم وصلّى قبله، وزيد كان أول من أسلم وصلى بعد عليّ بن أبي طالب من الرجال.

قال ابن هشام: زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر ابن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة.

قال ابن إسحاق: وكان حكيم بن حزام بن خويلد قدم من الشام برقيق، فيهم زيد بن حارثة وصيف، فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد، وهي يومئذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: اختاري يا عمة أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك، فاختارت زيدا فأخذته، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه، وذلك قبل أن يوحى إليه، وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعا شديدا، وبكى عليه حين فقده، ثم قدم عليه وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فأقم عندي، وإن شئت فانطلق مع أبيك، فقال: بل أقيم عندك. فلم يزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله فصدقه وأسلم، وصلى معه، فلما أنزل الله عز وجل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب] قال: أنا زيد ابن حارثة.

روى هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، وعن جميل بن مرثد الطائي وغيرهما، قالوا: زارت سعدى أم زيد بن حارثة قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية على أبيات بني معن، فاحتملوا زيدا وهو غلام يفعة، فأتوا به في سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبته له، فحج ناس من كلب، فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، فانطلقوا فأعلموا أباه، ووصفوا له موضعا، فخرج حارثة وكعب أخوه بفدائه، فقدما مكة، فسألا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا بن عبد المطلب، يا بن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عبدك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك. قال وما ذاك؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال: أو غير ذلك؟ أدعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء. وإن اختارني فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء قالوا: زدتنا على النَصَف، فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، قال: فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما. فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني بمكان الأب والعم. فقالا: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر، فقال: اشهدوا أن زيدا ابني، يرثني وأرثه، فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، وانصرفا، فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام".

وعن ‌عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أن زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) [الأحزاب]

رواه البخاري.

قلت: ثم إن أخاه جبلة بن حارثة، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أكرمه الله تعالى بالنبوة، يسأل النبي أن يبعث زيداً معه.

عن أبي إسحاق السبيعي قال: كان جبلة بن حارثة في الحي، فقالوا له: أنت أكبر أم زيد؟ قال: زيد أكبر مني وأنا ولدت قبله، وسأخبركم، إن أمنا كانت من طيئ فماتت، فبقينا في حجر جدنا، فقال عماي لجدنا: نحن أحق بابني أخينا، فقال: خذا جبلة ودعا زيدا، فأخذاني فانطلقا بي، فجاءت خيل من تهامة فأخذت زيدا، فوقع إلى خديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

 وعن أبي عمرو الشيباني قال: أخبرني جبلة بن حارثة قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، ابعث معي أخي زيدا. قال: هوذا فإن انطلق لم أمنعه. فقال زيد: لا والله لا أختار عليك أحدا أبدا. قال: فرأيت رأي أخي أفضل من رأيي.

إسلام علي بن أبي طالب

قال ابن إسحاق: ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معه وصدق بما جاءه من الله تعالى: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم، رضوان الله وسلامه عليه، وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان مما أنعم الله به على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام 

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج، قال: كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، ومما صنع الله له، وأراده به من الخير، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه، وكان من أيسر بني هاشم، يا عباس: إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه، فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ أنت رجلا، فنكلهما عنه، فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيا، فاتبعه علي رضي الله عنه، وآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.

قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عم، هذا دين الله، ودين ملائكته، ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال صلى الله عليه وسلم - بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت أي عم، أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه - أو كما قال - فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت. وذكروا أنه قال لعلي: أي بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت، آمنت بالله وبرسول الله، وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.ِ

فرض الصلاة والزكاة

قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت عليه ركعتين ركعتين، كل صلاة، ثم إن الله تعالى أتمها في الحضر أربعا، وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم: أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبريل عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ، ثم قام به جبريل فصلى به، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل عليه السلام. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة، فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم صلى بها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما صلى به جبريل فصلت بصلاته.

قال ابن إسحاق: وحدثني عتبة بن مسلم، مولى بني تميم، عن نافع بن جبير بن مطعم، وكان نافع كثير الرواية، عن ابن عباس قال: لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام، فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر، ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق، ثم قال: يا محمد، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس.

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي يعني المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر. ثم التفت إلي فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين".

رواه أبو داود والترمذي.

قلت: وفرضت الزكاة بعد فرض الصلاة، إلّا أنها فرضت أوّل مرة في مكة على سبيل الإجمال، وقد دلت على ذلك آيات من القرآن نزلت في مكة، وكان ذلك موكولا لما تجود به الأنفس، إلا أن تفصيل الزكاة ومقدارها لم يفرض إلّا بعد فرض صوم شهر رمضان، وذلك بعد الهجرة إلى المدينة، في السنة الثانية، وقيل في السنة التاسعة للهجرة النبويّة، والله أعلم.

إسلام خديجة بنت خويلد عليها السلام

قال ابن إسحاق: وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه. فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى.

قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.

قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أقرئ خديجة السلام من ربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة، هذا جبريل يقرئك السلام من ربك، فقالت خديجة: الله السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام.

ابتداء تنزيل القرآن الكريم

قال ابن إسحاق: فابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان، بقول الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة] وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر] وقال الله تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان]

قال ابن إسحاق: ثم تتام الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو مؤمن بالله مصدق بما جاءه منه، قد قبله بقبوله، وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم، والنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها ولا يستطيع بها إلا أهل القوة والعرم من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه، لما يلقون من الناس وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله سبحانه وتعالى. قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.

بعثة النبي (ص)

عن أبي أمامة الباهلي قال: قلت: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام".

رواه أحمد.

قال ابن إسحاق: فلما بلغ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا، وكان الله تبارك وتعالى قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به، والتصديق له، والنصر له على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه. يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي: ثقل ما حملتكم من عهدي، {قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران] فأخذ الله ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له، والنصر له ممن خالفه، وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين.

وعن ‌عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد، الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى بلغ {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: يا خديجة، ما لي. وأخبرها الخبر، وقال: قد خشيت على نفسي. فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخو أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا، أكون حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي. قال ‌ابن شهاب : وأخبرني ‌أبو سلمة بن عبد الرحمن : أن ‌جابر بن عبد الله الأنصاري قال، وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدّثِّر] فحمي الوحي وتتابع".

رواه البخاري.

وقوله: "ما أنا بقارئ" أي: لا أحسن القراءة.

وقوله: "زملوني" أي: أجمعوا علي الأغطية، يريد بذلك أن يخف ما به من روع. وزملوني ودثروني، معنيان مترادفان.

وعن عبدالله بن عباس أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا، وبالمدينة عشرا، ومات وهو ابن ثلاث وستين.

رواه أحمد.

وعن ‌عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا".

رواه البخاري.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عجائب قبل بعثته، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلِّم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن".

رواه مسلم.