رجوع بعض المهاجرين إلى مكة

عن عبدالله بن مسعود قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة، فسجد فيها، وسجد من معه، غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب، فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا.

رواه البخاري.

وعن عبد الله بن مسعود قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم، قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف

رواه البخاري.

قلت: وإنما سجدوا، لعِظم القرآن وقوّته، في الفصاحة والبلاغة والبيان، فرآهم بعض قريش، فظنهم اسلموا، وذهب في الناس يخبرهم، وظهر في الناس أن قريشا أسلمت، فتناقل الناس هذا الخبر، حتى بلغ من بأرض الحبشة من قريش وحلفائها.

قال ابن إسحاق: وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين خرجوا إلى أرض الحبشة، إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا. فكان ممن قدم عليه مكة منهم، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد معه بدرا و أحدا، و من حُبس عنه حتى فاته بدر وغيره، ومن مات بمكة منهم من بني عبد شمس بن عبد مناف بن قصي: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو. ومن حلفائهم: عبدالله بن جحش بن رئاب.ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان، حليف لهم، من قيس ابن عيلان. ومن بني أسد بن عبدالعزى بن قصي: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد. ومن بني عبدالدار بن قصي: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، بن عبدالدار. وسُويـبط بن سعد بن حرملة.‏ ومن بني عبد بن قصي: طُليب بن عمير بن وهب بن عبد. ومن بني زهرة بن كلاب: عبدالرحمن بن عوف بن عبدعوف بن عبد ابن الحارث بن زهرة، والمقداد بن عمرو، حليف لهم، وعبدالله بن مسعود، حليف لهم. ومن بني مخزوم بن يقظة: أبو سلمة بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وشماس بن عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن مخزوم. وسلمة بن هشام بن المغيرة، حبسه عمه بمكة، فلم يقدم إلا بعد بدر وأحد والخندق، وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة، هاجر معه إلى المدينة، ولحق به أخواه لأمه: أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام، فرجعا به إلى مكة فحبساه بها حتى مضى بدر وأحد والخندق. ومن حلفائهم: عمار بن ياسر، يُشك فيه، أكان خرج إلى الحبشة أم لا؟ ومعتب بن عوف بن عامر من خزاعة. ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح. وابنه السائب بن عثمان، وقدامة بن مظعون، وعبدالله بن مظعون. ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب: خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وهشام بن العاص بن وائل، حبس بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى قدم بعد بدر وأحد والخندق. ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة، حليف لهم، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن حذافة بن غانم. ومن بني عامر بن لؤي: عبدالله بن مخرمة بن عبدالعزى بن أبي قيس: وعبدالله بن سهيل بن عمرو، وكان حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، حتى كان يوم بدر، فانحاز من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معه بدرا، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبدالعزى، معه امرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، معه امرأته سودة بنت زمعة بن قيس، مات بمكة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأته سودة بنت زمعة. ومن حلفائهم: سعد بن خولة. ومن بني الحارث بن فهر: أبو عبيدة بن الجراح، وهو عامر بن عبدالله ابن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد، وسهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال، وعمرو بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال.فجميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا.

همز المشركين ولمزهم وسخريتهم بالنبي وأصحابه

قال ابن إسحاق: فجعلت قريش حين منعه الله منها، وقام عمه وقومه من بني هاشم، وبني المطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته منهم، ومنهم من سمّى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار، فكان ممن سمّي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبدالمطلب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية، حمَّالة الحطب، وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب، لأنها كانت - فيما بلغني - تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر، فأنزل الله تعالى فيهما: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)} [المسد].

قال ابن إسحاق: فذُكر لي: أن أم جميل: حمالة الحطب، حين سمعت ما نزل فيها، وفي زوجها من القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فِهْر من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت: مذمما عصينا وأمره أبَيْنا. ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تُراها رأتك؟ فقال: ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني.

قال ابن إسحاق: وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما، ثم يسبونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش، يسبون و يهجون مذمما، وأنا محمد.

وأمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، فأنزل الله تعالى فيه: ‏‏{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا ۖ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة].

قال ابن إسحاق: والعاص بن وائل السهمي، كان خباب بن الأرت، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قينا بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص ابن وائل سيوفا عملها له حتى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال له: يا خباب، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم! قال خباب: بلى. قال: فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب آثر عند الله مني، ولا أعظم حظا في ذلك.فأنزل الله تعالى فيه: ‏‏{‏‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} .‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)} [مريم].

ولقي أبو جهل بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - فقال له: والله يا محمد، لتتركن سب آلهتنا، أو لنسبن إلهك الذي تعبد.فأنزل الله تعالى فيه: ‏‏{‏‏وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ (108)} [الأنعام]‏‏. فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عن سب آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله.

والنضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن، وحذر فيه قريشا ما أصاب الأمم الخالية، خلفه في مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رستم السنديد، وعن أسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها. فأنزل الله فيه: ‏‏{‏‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (6)} [الفرقان]‏‏. ونزل فيه: ‏‏{‏‏‏‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (15)} [القلم]‏ ‏.ونزل فيه: ‏‏{وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} [الجاثية]‏‏.

قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما - فيما بلغني - مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: ‏‏{‏‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100)} [الأنبياء]‏‏.

قال ابن إسحاق: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبدالله بن الزبعرى السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبدالله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبدالمطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبدالله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته خصمته، فسلوا محمدا: أكلّ ما يُعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى بن مريم عليهما السلام، فعجب الوليد، ومن كان معه في المجلس من قول عبدالله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزبعرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كل من أحب أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته.فأنزل الله تعالى عليه في ذلك: ‏‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (10)} [الأنبياء]. أي عيسى بن مريم، وعزيرا، ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله. ونزَّل فيما يذكرون، أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات الله: ‏‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26)‏‏} ‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله: ‏‏{‏‏وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء]‏‏.‏ ونزّل فيما ذكر من أمر عيسى بن مريم أنه يُعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته: ‏‏{‏‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف]. أي يصدون عن أمرك بذلك من قولهم. ثم ذكر عيسى بن مريم فقال: ‏‏{إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61)} [الزخرف]. أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة.

قلت: ما ذكره ابن إسحاق في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} خطأ، والصواب ما روي عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه من أن معنى الآية نزول عيسى عليه السلام في أخر الزمان، وأن نزوله في ذلك الوقت، علامة على قرب الساعة، والمراد بالساعة هنا: القيامة.

قال ابن إسحاق: والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، وكان من أشراف القوم وممن يُستمع منه، فكان يصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرد عليه، فأنزل الله تعالى فيه: ‏‏{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ (10)} ‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى: ‏‏{‏‏عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} [القلم]‏‏، ولم يقل: ‏‏{زَنِيمٍ} لعيب في نسبه، لأن الله لا يعيب أحدا بنسب، ولكنه حقق بذلك نعته ليُعرف. والزنيم: العديد للقوم.

قلت: الزنيم، هو الملصق بالقوم وليس منهم.

والوليد بن المغيرة، قال: أيُنـزَّل على محمد وأُترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين، فأنزل الله تعالى فيه، فيما بلغني: ‏‏{‏‏وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}‏‏ .‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى: {‏‏وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف].

وأبي بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، وعقبة بن أبي معيط، وكانا متصافيين، حَسَنا ما بينهما. فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فبلغ ذلك أبيا، فأتى عقبة فقال له: ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه، قال: وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - واستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه، أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله. فأنزل الله تعالى فيهما: ‏‏{‏‏‏‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27)} .‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى: ‏‏{لِلإِنسَانِ خَذُولا (29)} [الفرقان].

ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظمٍ بالٍ قد ارْفتَّ، فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرمّ، ثم فتَّه في يده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا، ثم يدخلك الله النار. فأنزل الله تعالى فيه: ‏‏{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80)} [يس].

واعترض رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغني - الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه.فأنزل الله تعالى فيهم: ‏‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون]. أي إن كنتم لا تعبدون الله، إلا أن أعبد ما تعبدون، فلا حاجة لي بذلك منكم، لكم دينكم جميعا، ولي ديني.

وأبو جهل بن هشام، لما ذكر الله عز وجل شجرة الزقوم تخويفا بها لهم، قال: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: ‏عجوة يثرب بالزبد، والله لئن استمكنا منها لنتزقمنَّها تزقما.فأنزل الله تعالى فيه: ‏‏{‏‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} [الدخان]. أي ليس كما يقول. وأنزل الله تعالى فيه: ‏‏{‏‏وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)} [الإسراء].

ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، و رسول الله عليه و سلم يكلمه، وقد طمع في إسلامه، فبينا هو في ذلك، إذ مر به ابن أم مكتوم الأعمى، فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه. فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه. فأنزل الله تعالى فيه: ‏‏{‏‏عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءَهُ الأَعْمَى (2)} .. إلى قوله تعالى: ‏‏{فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14)} [عبس].‏‏ أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا، لم أخص بك أحدا دون أحد، فلا تمنعه ممن ابتغاه، ولا تتصدينّ به لمن لا يريده.‏

قال ابن هشام: ابن أم مكتوم، أحد بني عامر بن لؤي، و اسمه عبدالله، و يقال: عمرو.

تحالف قريش على النبي (ص) ومن ناصره من قومه

قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبدالمطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم، و بني المطلب، على أن لا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم، وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي.

قال ابن هشام: ويقال: النضر بن الحارث.

قال ابن إسحاق:  فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشُلّ بعض أصابعه. فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبدالمطلب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من ‏بني هاشم أبو لهب، عبدالعزى بن عبدالمطلب، إلى قريش، فظاهرهم.

قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبدالله: أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة، حين فارق قومه، وظاهر عليهم قريشا، فقال: يا بنت عتبة، هل نصرت اللات والعزى، وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما؟ قالت: نعم، فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة.

قال ابن إسحاق: وحُدِّثت أنه كان يقول بعض ما يقول: يعدني محمد أشياء لا أراها، يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يديّ بعد ذلك؟ ثم ينفخ في يديه ويقول: تبا لكما، ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد. فأنزل الله تعالى فيه: {‏‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد].

وقد كان أبو جهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه في الشعب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة.

فجاءه أبو البَخْتري بن هشام بن الحارث بن أسد، فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خلّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لَـحْي ‏بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطأ شديدا، وحمزة بن عبدالمطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيشمتوا بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا، و سرا وجهارا، مباديا بأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس.

إسلام عمر بن الخطّاب (ض)

‏‏قال ابن إسحاق: قال البكائي، قال: حدثني مسعر بن كدام، عن سعد بن إبراهيم، قال: قال عبدالله بن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه.

ورواه ابن سعد في الطبقات، عن يعلى ومحمد ابنا عبيد، وعبيد الله بن موسى، والفضل بن دكين، ومحمد بن عبد الله الأسدي، قالوا : أخبرنا مسعر، عن القاسم بن عبدالرحمن، قال: قال عبدالله بن مسعود، ثم ساق الخبر.

قال ابن إسحاق: حدثني عبدالرحمن بن الحارث بن عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبدالعزيز بن عبدالله بن عامر بن ربيعة، عن أمه أم عبدالله بنت أبي حثمة، قالت: ‏و الله إنا لنترحَّل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبدالله. قالت: فقلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله مخرجا. قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى - خروجنا. قالت: فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له: يا أبا عبدالله، لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا. قال: أطمعتِ في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم؛ قال: فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب؛ قالت: يأسا منه، لما كان يُرى من غلظته وقسوته عن الإسلام ‏‏.‏‏

قلت: وقد اختلف في كيفيّة إسلام عمر بن الخطّاب على روايتين:

الأولى: ما رواه ابن إسحاق قال‏‏:‏‏ وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قد أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر، وكان نُعيم بن عبدالله النحَّام من مكة، رجل من قومه، من بني عدي ابن كعب قد أسلم، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة ‏بنت الخطاب يُقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذُكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبدالمطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم، ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة. فلقيه نعيم بن عبدالله، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ، الذي فرَّق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله؛ فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبدمناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: خَتَنُكَ وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة، فيها: {طه} يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهَيْنَمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا؛ قال: بلى والله، لقد أُخبِرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد؛ فقامت إليه أخته فاطمة ‏بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها؛ فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبا؛ فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها؛ قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها؛ فلما قال ذلك، طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس، على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها: ‏‏{طه} فقرأها؛ فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج عليه، فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأُسلم؛ فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه،‏ فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب؛ فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر من خَلل الباب فرآه متوشحا السيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف؛ فقال حمزة بن عبدالمطلب: فأذنْ له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له، فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حُجْزته، أو بمجمع ردائه، ثم جَبَذه به جبذة شديدة، وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزِل الله بك قارعة، فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله؛ قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم. فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوهم. فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر بن الخطاب حين أسلم. ‏

والرواية الثانية، قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح المكي، عن أصحابه: عطاء، ومجاهد، أو عمن روى ذلك: أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه، أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأُسرُّ بها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحَزْوَرة، عند دور آل عمر بن عبد بن عمران المخزومي، قال: فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، قال: فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدا. قال: فقلت: لو أني جئت فلانا الخمَّار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها. قال: فخرجت فجئته فلم أجده. قال: فقلت: فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين. قال: فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين: الركن الأسود، والركن اليماني. قال: فقلت حين رأيته، والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول! قال: فقلت: لئن دنوت منه أستمع منه لأروِّعنه؛ فجئت من قبل الحجر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويدا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة. قال: فلما سمعت القرآن رق له قلبي، فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائما في مكاني ذلك، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، ثم انصرف.

قال ابن إسحاق: وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين، وكانت طريقه، حتى يجزع المسعى، ثم يسلك بين دار عباس بن عبدالمطلب، وبين دار ابن أزهر بن عبدعوف الزهري، ثم على دار الأخنس بن شريق، حتى يدخل بيته. وكان مسكنه صلى الله عليه وسلم في الدار الرقطاء، التي كانت بيدي معاوية بن أبي سفيان. 

قال عمر رضي الله عنه: فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس، ودار ابن أزهر، أدركته؛ فلما سمع رسول اله صلى الله عليه وسلم حسي عرفني، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني، ثم قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟ قال: قلت: جئت لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله؛ قال: فحمد اللهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: قد هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته.‏‏

قال ابن إسحاق: والله أعلم أي ذلك كان ‏‏.‏‏

قلت: والراجح في إسلام عمر بن الخطاب، هو الخبر الذي رواه أهل المدينة، لأن الخبر المروي عن عطاء ومجاهد، قد ينسب إلى أي شخص، أما خبر أهل المدينة فلا يمكن نسبته إلّا لعمر بن الخطاب، فهو أخو فاطمة بنت الخطّاب، وخَتَن سعيد بن زيد، ويظهر أن الخبر الذي رواه عطاء ومجاهد، وقع لأحد رجالات قريش، فوهم الراوي الذي رواهما الخبر، فظن أن ذلك الرجل هو عمر، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبدالله بن عمر، عن ابن عمر، قال: لما أسلم أبي عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. قال: فغدا عليه. قال عبدالله بن عمر: فغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه، فقال له: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت، ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول الكعبة، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبا. قال: و يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم. قال: وطَلِحَ، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا؛ قال: فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخ من قريش، عليه حُلَّة حِبْـرَة، وقميص موشّى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبا عمر؛ فقال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يُسلمون لكم صاحبكم هكذا! خلوا عن الرجل. قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبا كُشط عنه. قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك؟ فقال: ذاك، أي بُنيّ، العاص بن وائل السهمي.

قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أنه قال: يا أبت، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك، جزاه الله خيرا. قال: يا بني، ذلك العاص بن وائل، لا جزاه الله خيرا.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر، أو بعض أهله، قال: قال عمر: لما أسلمت تلك الليلة، تذكرت أيّ أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت؛ قال: قلت: أبو جهل - وكان عمر، لحنتمة بنت هشام بن المغيرة - قال: فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه. قال: فخرج إلي أبو جهل، فقال: مرحبا وأهلا بابن أختي، ما جاء بك؟ قلت: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به؛ قال: فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به. ‏

إرسال قريش للنجاشي ليرد مهاجري قريش إليهم

قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم، ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم، التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها؛ فبعثوا عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، ثم بعثوهما إليه فيهم ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نُؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه؛ فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأُدُم - جمع أديم، وهو الجلد المدبوغ - فجمعوا له أُدُما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل ‏أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرُداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله، إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد، قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له: أيها الملك، كُنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف؛ فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات؛ وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك؛ ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم؛ فقال له النجاشي: فاقرأه علي؛ قالت: فقرأ عليه صدرا من: ‏‏(‏‏كهيعص) [مريم] قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلَّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يُكادون. قالت: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. قالت: فقال له عبدالله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينـزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول: هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم ‏العذارء البتول. قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قُلتَ هذا العود، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال؛ فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شُيوم بأرضي - والشيوم: الآمنون - مَن سبَّكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم. ما أحب أن لي دبرا من ذهب، وأني آذيت رجلا منكم، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار. قالت: فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه. قالت: فوالله ما علمتُنا حزنَّا حزنا قطُّ كان أشد علينا من حزن حزنَّاه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا، قالوا: فأنت. وكان من أحدث القوم سنا. قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده. قالت: فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده. قالت: فوالله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها. قالت: ورجع النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ‏‏.‏‏

قال ابن هشام: ويقال دبرا من ذهب، ويقال: فأنتم سُيوم، والدبر: بلسان الحبشة: الجبل.

قال ابن إسحاق: قال الزهري: فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبدالرحمن، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناسَ فيّ فأطيع الناس فيه؟ قال: قلت: لا؛ قال: فإن عائشة أم المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملَّكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه اثني عشر رجلا، فتوارثوا ملكه من بعده، بقيت الحبشة بعده دهرا؛ فغدوا على أبي النجاشي فقتلوه، وملَّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينا. ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيبا حازما من الرجال، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة؛ فلما رأت الحبشة مكانه منه، قالت بينها: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملِّكه علينا، وإن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه. فمشوا إلى عمه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خفناه على أنفسنا؛ قال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم. قالت: فخرجوا به إلى السوق، فباعوه من رجل من التجار بست مئة درهم؛ فقذفه في سفينة فانطلق به، حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم، هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته. قالت: ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هو محمَّق، ليس في ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم. فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك، قال بعضهم لبعض: تعلموا والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم غدوة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه الآن. قالت: فخرجوا في طلبه، وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه، فأخذوه منه؛ ثم جاءوا به، فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك، فملكوه. فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك؟ قالوا: لا نعطيك شيئا، قال: إذن والله أكلمه؛ قالوا: فدونك وإياه. قالت: فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بست مئة درهم، فأسلموا إلي غلامي وأخذوا دراهمي، حتى إذا سرت بغلامي أدركوني، فأخذوا غلامي، ومنعوني دراهمي. قالت: فقال لهم النجاشي: لتُعطُنَّه دراهمه، أو ليضعن غلامه يده في يده، فليذهبن به حيث شاء؛ قالوا: بل نعطيه دراهمه. قالت: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأُطيع الناس فيه. قالت: وكان ذلك أول ما خُبر من صلابته في دينه، وعدله في حكمه ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقت ديننا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمتُ فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم؛ ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة، وصفُّوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة؛ قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد؛ قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله؛ فقال النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم، لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا عنه. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما مات النجاشي صلى عليه، واستغفر له ‏‏.

الهجرة الأولى إلى الحبشة

قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة، فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه.
قال ابن إسحاق: من بني هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر: جعفر بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، معه امرأته أسماء بنت عُميس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة بن خثعم، ولدت له بأرض الحبشة عبدالله بن جعفر.
ومن بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، معه امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث بن خُمْل بن شقّ بن رقبة بن مخُدج الكناني، وأخوه خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، معه امرأته أُمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن جُعْثمة بن سعد بن مُليح بن عمرو، من خزاعة. 
قال ابن هشام: ويقال: همُينة بنت خلف. 
قال ابن إسحاق: ولدت له بأرض الحبشة سعيد بن خالد، وأمه بنت خالد، فتزوج أمة بعد ذلك الزبير بن العوام، فولدت له عمرو بن الزبير، وخالد بن الزبير ‏‏.‏‏
ومن حلفائهم، من بني أسد بن خزيمة: عبدالله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد؛ وأخوه عبيد الله بن جحش، معه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية؛ وقيس بن عبدالله، رجل من بني أسد بن خزيمة، معه امرأته بركة بنت يسار، مولاة أبي سفيان بن حرب بن أمية؛ ومعيقيب بن أبي فاطمة. 
قال ابن هشام: ومُعيقيب من دوس.
قال ابن إسحاق: ومن بني عبد شمس بن عبد مناف، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته: سهلة بنت سهيل بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤي، ولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة، وأبو موسى الأشعري، واسمه عبدالله بن قيس، حليف آل عتبة بن ربيعة. 
قلت: وأبو موسى من بني الأشعر، وهم قبيلة من مذحج، قاله أبو المنذر.
قال ابن إسحاق: ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نسيب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، حليف لهم.
ومن بني أسد بن عبدالعزى بن قصي: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد، ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد.
ومن بني عبد بن قصي: طُليب بن عمير بن وهب بن أبي كبير بن عبد بن قصي.
ومن بني عبدالدار بن قصي: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار؛ وسويبط بن سعد بن حرملة بن مالك بن عُميلة بن السباق ابن عبدالدار؛ وجهم بن قيس بن عبد شُرحبيل بن هاشم بن عبد مناف ابن عبدالدار، معه امرأته أم حرملة بنت عبدالأسود بن جذيمة بن أقيش ابن عامر بن بياضة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مُليح بن عمرو، من خزاعة؛ وابناه: عمرو بن جهم وخزيمة بن جهم؛ وأبو الروم ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار؛ وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبدالدار.
ومن بني زهرة بن كلاب: عبدالرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد ابن الحارث بن زهرة؛ وعامر بن أبي وقاص وأبو وقاص، مالك بن أهيب ابن عبد مناف بن زهرة؛ والمطلب بن أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، معه امرأته رملة بنت أبي عوف بن ضُبيرة بن سُعيد بن سعد بن سهم، ولدت له بأرض الحبشة عبدالله بن المطلب.
ومن حلفائهم من هذيل: عبدالله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم ابن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وأخوه: عتبة بن مسعود. ومن بهراء: المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد بن زهير بن لؤي بن ثعلبة بن مالك بن الشريد ابن أبي أهوز بن أبي فائش بن دُريم بن القين بن أهود بن بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وكان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث ‏بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، وذلك أنه تبناه في الجاهلية.
ومن بني تيم بن مرة: الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، معه امرأته ريطة بنت الحارث بن جبلة بن عامر ابن كعب بن سعد بن تيم، ولدت له بأرض الحبشة موسى بن الحارث، وعائشة بنت الحارث، وزينب بنت الحارث، وفاطمة بنت الحارث، وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم.
 ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: أبو سلمة بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة ابن عبدالله بن عمر بن مخزوم، ولدت له بأرض الحبشة زينب بنت أبي سلمة، واسم أبي سلمة: عبدالله، واسم أم سلمة: هند، وشماس بن عثمان بن الشريد بن سويد بن هَرْمي بن عامر بن مخزوم. 
قال ابن هشام: واسم شماس: عثمان، وإنما سمي شماسا، لأن شماسا من الشمامسة، قدم مكة في الجاهلية، وكان جميلا فعجب الناس من جماله، فقال عتبة بن ربيعة، وكان خال شماس: أنا آتيكم بشماس أحسن منه. فجاء بابن أخته عثمان بن عثمان، فسمي شماسا.
قال ابن إسحاق: وهبار بن سفيان بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله ابن عمر بن مخزوم؛ وأخوه عبدالله بن سفيان؛ وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة بن عبدالله بن مخزوم؛ وسلمة بن هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم؛ وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ‏‏.‏‏
ومن حلفائهم: معتب بن عوف بن عمر بن الفضل بن عفيف بن كليب بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو، من خزاعة، وهو الذي يقال له: عَيْهامة.
قال ابن هشام: ويقال: حُبشية بن سلول، وهو الذي يقال له معتب بن حمراء.
ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح؛ وابنه السائب بن عثمان؛ وأخواه قدامة بن مظعون، وعبدالله بن مظعون؛ وحاطب بن الحارث بن معمر ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، معه امرأته فاطمة بنت المجلَّل بن عبدالله بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر؛ وابناه: محمد بن حاطب، والحارث بن حاطب، وهما لبنت المجلل؛ وأخوه حطاب بن الحارث، معه امرأته فكيهة بنت يسار؛ وسفيان بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، معه ابناه: جابر بن سفيان، وجنادة بن سفيان، ومعه امرأته حسنة، وهي أمهما، وأخوهما من أمهما شرحبيل بن حسنة، أحد الغوث. 
قال ابن هشام: شرحبيل بن عبدالله أحدُ الغوث بن مر، أخي تميم بن مر. 
قال ابن إسحاق: وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح.
ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ وعبدالله بن الحارث بن قيس ابن عدي بن سعد بن سهل، وهشام بن العاص بن وائل بن سعد بن سهم. قال ابن هشام: العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم. قال ابن إسحاق: وقيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ وأبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ وعبدالله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ والحارث بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ ومَعْمَر بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ وبشر بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ وأخ له من أمه من بني تميم، يقال له: سعيد بن عمرو؛ وسعيد بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ والسائب بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ وعمير بن رئاب بن حذيفة بن مهشم بن سعد بن سهم. ومحَمية بن الجزاء، حليف لهم، من بني زبيد.
قلت:زَبيد، قبيلة من مذحج، قاله أبو المنذر.
قال ابن إسحاق: ومن بني عدي بن كعب: معمر بن عبدالله بن نضلة بن عبدالعزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي؛ وعروة بن عبدالعزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي؛ وعدي بن نضلة بن عبدالعزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي؛ وابنه النعمان بن عدي؛ وعامر بن ربيعة، حليف آل الخطاب، من عنز بن وائل. 
قال ابن هشام: ويقال: من عنزة بن أسد بن ربيعة.
قال ابن إسحاق: ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب.
ومن بني عامر بن لؤي: أبو سبرة ابن أبي رهم بن عبدالعزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، معه امرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر؛ وعبدالله بن مخرمة بن عبدالعزى بن أبي قيس ابن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، وعبدالله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن مالك بن حسل بن عامر؛ وسليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر؛ وأخوه السكران بن عمرو، معه امرأته سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر؛ ومالك بن زمعة ابن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، معه امرأته عمرة بنت السعدي بن وقدان بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر؛ وحاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر؛ وسعد بن خولة، حليف لهم. 
قال ابن هشام: سعد بن خولة من اليمن.
قال ابن إسحاق: ومن بني الحارث بن فهر: أبو عبيدة بن الجراح، وهو عامر بن عبدالله بن الجراح بن هلال بن أُهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر؛ وسهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث، ولكن أمه غلبت على نسبه، فهو ينسب إليها، وهي دعد بنت جحدم بن أمية من ظرب بن الحارث بن فهر، وكانت تدعى بيضاء؛ وعمرو بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث؛ وعياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث، ويقال: بل ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث؛ وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث؛ وعثمان بن عبد غنم بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث؛ وسعد بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر؛ والحارث بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر.
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارا وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يُشَكُّ فيه.
قلت: وقول ابن إسحاق عن عمّار: وهو يُشَكُّ فيه. أي: يَشُكُّ الرواة هل هاجر إلى الحبشة أم لا.
قال ابن إسحاق: وكان أول من خرج من المسلمين من بني أمية بن عبد شمس: عثمان بن عفان، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حذيفة بن عتبة، ومعه امرأته: سهلة بنت سهيل بن عمرو. ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الزبير بن العوام. ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير. ومن بني زهرة بن كلاب: عبد الرحمن ابن عوف. ومن بني مخزوم ابن يقظة: أبو سلمة بن عبد الأسد، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية. ومن بني جمح بن عمرو: عثمان بن مظعون. ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة. ومن بني عامر بن لؤي: أبو سبرة بن أبي رهم، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو، ويقال: هو أول من قدمها. ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء. فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة، فيما بلغني.
قال ابن هشام: وكان عليهم عثمان بن مظعون، فيما ذكر لي بعض أهل العلم.

استمرار قريش في أذية النبي (ص) وأصحابه

قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يُفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يَصْلَب لهم، ويعصمه الله منهم، وكان بلال، مولى أبي بكر رضي الله عنهما، لبعض بني جمح، مولَّدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح، وكان اسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخُرجه إذا حميت ‏الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا و الله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى؛ فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه، قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك، وهو يقول: أحد أحد؛ فيقول: أحد أحد والله يا بلال، ثم يقبل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بني جمح، فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا، حتى مر به أبو بكر الصديق ابن أبي قحافة رضي الله عنه يوما، وهم يصنعون ذلك به، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية بن خلف: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى؛ فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به؛ قال: قد قبلت، فقال: هو لك. فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب، بلال سابعهم، عامر بن فهيرة، شهد بدرا وأُحدا، وقتل يوم بئر معونة شهيدا؛ وأم عُبيس وزِنِّيرة، وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى؛ فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرها، وأعتق النهدية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبدالدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: حِلّْ يا أم فلان؛ فقالت: حِلّْ، أنت أفسدتهما فأعتقهما؛ قال: فبكم هما؟ قال: بكذا وكذا؛ قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما، ومر بجارية بني مؤمل، حي من بني كعب، وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة؛ فتقول: كذلك فعل الله بك. فابتاعها أبو بكر، فأعتقها ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبدالله بن أبي عتيق، عن عامر بن عبدالله بن الزبيـر، عن بعض أهله، قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: يا بني، إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جُلْدا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبت، إني إنما أريد ما أريد، لله ‏عز وجل. قال: فيُتحدَّث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه، وفيما قال له أبوه: ‏‏{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6)} ‏‏.‏‏‏‏‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى: ‏‏{‏‏‏‏وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21)}‏ [الليل].

قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول، فيما بلغني: صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة. فأما أمه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإسلام، وكان أبو جهل الفاسق الذي يُغري بهم في رجال من قريش، إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة، أنَّبه وأخزاه. وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولَنُفيِّلَنّ رأيك، ولنضعن شرفك؛ وإن كان تاجرا قال: والله لنُكسدنّ تجارتك، ولنهلكن مالك؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، قال: قلت لعبدالله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجُيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له؛ آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجُعَل ليمر بهم، فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وحدثني الزبير بن عكاشة بن عبدالله بن أبي أحمد أنه حُدِّث أن رجالا من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد بن المغيرة، وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا، منهم: سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة. قال: فقالوا له وخشوا شرهم: إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا، فإنا نأمن بذلك في غيرهم. قال: هذا، فعليكم به، فعاتبوه وإياكم ونفسه.. احذروا على نفسه، فأُقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلا. قال: فقالوا: اللهم العنه، من يُغرّر بهذا الخبيث، فوالله لو أصيب في أيدينا لقُتل أشرفنا رجلا. قال: فتركوه ونزعوا عنه. قال: وكان ذلك مما دفع الله به عنهم. ‏

تعنت قريش عند سماعها للقرآن

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عله وسلم إذا تلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، قالوا يهزؤون به: ‏‏{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} لا نفقه ما تقول ‏‏{وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} لا نسمع ما تقول ‏‏{‏‏وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} قد حال بيننا وبينك ‏‏{فَاعْمَلْ}‏‏ بما أنت عليه ‏‏{إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} [فصلت].‏‏ بما نحن عليه، إنا لا نفقه عنك شيئا، فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قولهم: ‏‏{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا}‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله ‏‏{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء]. أي كيف فهموا توحيدك ربك إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة، و في آذانهم وقرا، وبينك وبينهم حجابا بزعمهم؛ أي إني لم أفعل ذلك. ‏‏{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا (47)} [الإسراء]. أي ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثتك به إليهم. ‏‏{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)} [الإسراء]. ‏‏أي أخطئوا المثل الذي ضربوا لك، فلا يصيبون به هدى، ولا يعتدل لهم فيه قول ‏‏{وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا49)} [الإسراء]. أي قد جئت تخبرنا أنا سنُبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا، وذلك ما لا يكون. ‏‏{قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (51)} [الإسراء].‏‏ أي الذي خلقكم مما تعرفون، فليس خَلْقكم من تراب بأعز من ذلك عليه.

استكبار قريش عن الإيمان بدعوة الرسول (ص)

قال ابن إسحاق: فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق، وعرفوا صدقه فيما حدث، وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتِّباعه وتصديقه، فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا، ولجوا فيما هم عليه من الكفر، فقال قائلهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت] أي: اجعلوه لغوا وباطلا، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوما غلبكم ‏‏.‏‏

فقال أبو جهل يوما و هو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق: يا معشر قريش، يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا، وكثرة، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم؟ فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا .. (31)} [المُدَّثِّر] ..‏‏ إلى آخر القصة، فلما قال ذلك بعضهم لبعض، جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلي، يتفرقون عنه، ويأبون أن يستمعوا له، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي، استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوته، فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئا من قراءته، وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، مولى عمرو بن عثمان، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثهم أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حدثهم: إنما أنزلت هذه الآية: ‏‏{‏‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (110)} [الإسراء] من أجل أولئك النفر. يقول: لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك، ولا تخافت بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به. 

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجُهر لها به قط، فمن رجل يُسمعهموه؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا؛ قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه؛ قال: دعوني فإن الله سيمنعني ‏‏.‏‏

قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: ‏‏‏‏‏‏{‏‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رافعا بها صوته ‏‏‏‏‏‏{‏‏الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}‏‏ [الرحمن] قال: ثم استقبلها يقرؤها. قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك؛ فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا؛ قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه حُدِّث: أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكُلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود: فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا ‏‏.‏‏

فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها؛ قال الأخنس: وأنا والذي حلفتَ به كذلك ‏‏.‏‏

قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبدمناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذبنا على الركب، وكنا كفرسَيْ رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه ‏‏.‏‏