قال ابن إسحاق: قال البكائي، قال: حدثني مسعر بن كدام، عن سعد بن إبراهيم، قال: قال عبدالله بن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه.
ورواه ابن سعد في الطبقات، عن يعلى ومحمد ابنا عبيد، وعبيد الله بن موسى، والفضل بن دكين، ومحمد بن عبد الله الأسدي، قالوا : أخبرنا مسعر، عن القاسم بن عبدالرحمن، قال: قال عبدالله بن مسعود، ثم ساق الخبر.
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالرحمن بن الحارث بن عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبدالعزيز بن عبدالله بن عامر بن ربيعة، عن أمه أم عبدالله بنت أبي حثمة، قالت: و الله إنا لنترحَّل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبدالله. قالت: فقلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله مخرجا. قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى - خروجنا. قالت: فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له: يا أبا عبدالله، لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا. قال: أطمعتِ في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم؛ قال: فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب؛ قالت: يأسا منه، لما كان يُرى من غلظته وقسوته عن الإسلام .
قلت: وقد اختلف في كيفيّة إسلام عمر بن الخطّاب على روايتين:
الأولى: ما رواه ابن إسحاق قال: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قد أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر، وكان نُعيم بن عبدالله النحَّام من مكة، رجل من قومه، من بني عدي ابن كعب قد أسلم، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذُكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبدالمطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم، ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة. فلقيه نعيم بن عبدالله، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ، الذي فرَّق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله؛ فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبدمناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: خَتَنُكَ وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة، فيها: {طه} يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهَيْنَمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا؛ قال: بلى والله، لقد أُخبِرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد؛ فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها؛ فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبا؛ فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها؛ قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها؛ فلما قال ذلك، طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس، على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها: {طه} فقرأها؛ فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج عليه، فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأُسلم؛ فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب؛ فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر من خَلل الباب فرآه متوشحا السيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف؛ فقال حمزة بن عبدالمطلب: فأذنْ له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له، فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حُجْزته، أو بمجمع ردائه، ثم جَبَذه به جبذة شديدة، وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزِل الله بك قارعة، فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله؛ قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم. فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوهم. فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر بن الخطاب حين أسلم.
والرواية الثانية، قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح المكي، عن أصحابه: عطاء، ومجاهد، أو عمن روى ذلك: أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه، أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأُسرُّ بها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحَزْوَرة، عند دور آل عمر بن عبد بن عمران المخزومي، قال: فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، قال: فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدا. قال: فقلت: لو أني جئت فلانا الخمَّار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها. قال: فخرجت فجئته فلم أجده. قال: فقلت: فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين. قال: فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين: الركن الأسود، والركن اليماني. قال: فقلت حين رأيته، والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول! قال: فقلت: لئن دنوت منه أستمع منه لأروِّعنه؛ فجئت من قبل الحجر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويدا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة. قال: فلما سمعت القرآن رق له قلبي، فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائما في مكاني ذلك، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، ثم انصرف.
قال ابن إسحاق: وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين، وكانت طريقه، حتى يجزع المسعى، ثم يسلك بين دار عباس بن عبدالمطلب، وبين دار ابن أزهر بن عبدعوف الزهري، ثم على دار الأخنس بن شريق، حتى يدخل بيته. وكان مسكنه صلى الله عليه وسلم في الدار الرقطاء، التي كانت بيدي معاوية بن أبي سفيان.
قال عمر رضي الله عنه: فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس، ودار ابن أزهر، أدركته؛ فلما سمع رسول اله صلى الله عليه وسلم حسي عرفني، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني، ثم قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟ قال: قلت: جئت لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله؛ قال: فحمد اللهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: قد هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته.
قال ابن إسحاق: والله أعلم أي ذلك كان .
قلت: والراجح في إسلام عمر بن الخطاب، هو الخبر الذي رواه أهل المدينة، لأن الخبر المروي عن عطاء ومجاهد، قد ينسب إلى أي شخص، أما خبر أهل المدينة فلا يمكن نسبته إلّا لعمر بن الخطاب، فهو أخو فاطمة بنت الخطّاب، وخَتَن سعيد بن زيد، ويظهر أن الخبر الذي رواه عطاء ومجاهد، وقع لأحد رجالات قريش، فوهم الراوي الذي رواهما الخبر، فظن أن ذلك الرجل هو عمر، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبدالله بن عمر، عن ابن عمر، قال: لما أسلم أبي عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. قال: فغدا عليه. قال عبدالله بن عمر: فغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه، فقال له: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت، ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول الكعبة، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبا. قال: و يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم. قال: وطَلِحَ، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا؛ قال: فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخ من قريش، عليه حُلَّة حِبْـرَة، وقميص موشّى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبا عمر؛ فقال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يُسلمون لكم صاحبكم هكذا! خلوا عن الرجل. قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبا كُشط عنه. قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك؟ فقال: ذاك، أي بُنيّ، العاص بن وائل السهمي.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أنه قال: يا أبت، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك، جزاه الله خيرا. قال: يا بني، ذلك العاص بن وائل، لا جزاه الله خيرا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر، أو بعض أهله، قال: قال عمر: لما أسلمت تلك الليلة، تذكرت أيّ أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت؛ قال: قلت: أبو جهل - وكان عمر، لحنتمة بنت هشام بن المغيرة - قال: فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه. قال: فخرج إلي أبو جهل، فقال: مرحبا وأهلا بابن أختي، ما جاء بك؟ قلت: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به؛ قال: فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به.