قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم، ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم، التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها؛ فبعثوا عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، ثم بعثوهما إليه فيهم .
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نُؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه؛ فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأُدُم - جمع أديم، وهو الجلد المدبوغ - فجمعوا له أُدُما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرُداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله، إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد، قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له: أيها الملك، كُنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف؛ فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات؛ وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك؛ ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم؛ فقال له النجاشي: فاقرأه علي؛ قالت: فقرأ عليه صدرا من: (كهيعص) [مريم] قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلَّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يُكادون. قالت: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. قالت: فقال له عبدالله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينـزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول: هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذارء البتول. قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قُلتَ هذا العود، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال؛ فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شُيوم بأرضي - والشيوم: الآمنون - مَن سبَّكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم. ما أحب أن لي دبرا من ذهب، وأني آذيت رجلا منكم، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار. قالت: فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه. قالت: فوالله ما علمتُنا حزنَّا حزنا قطُّ كان أشد علينا من حزن حزنَّاه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا، قالوا: فأنت. وكان من أحدث القوم سنا. قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده. قالت: فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده. قالت: فوالله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها. قالت: ورجع النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة .
قال ابن هشام: ويقال دبرا من ذهب، ويقال: فأنتم سُيوم، والدبر: بلسان الحبشة: الجبل.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبدالرحمن، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناسَ فيّ فأطيع الناس فيه؟ قال: قلت: لا؛ قال: فإن عائشة أم المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملَّكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه اثني عشر رجلا، فتوارثوا ملكه من بعده، بقيت الحبشة بعده دهرا؛ فغدوا على أبي النجاشي فقتلوه، وملَّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينا. ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيبا حازما من الرجال، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة؛ فلما رأت الحبشة مكانه منه، قالت بينها: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملِّكه علينا، وإن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه. فمشوا إلى عمه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خفناه على أنفسنا؛ قال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم. قالت: فخرجوا به إلى السوق، فباعوه من رجل من التجار بست مئة درهم؛ فقذفه في سفينة فانطلق به، حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم، هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته. قالت: ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هو محمَّق، ليس في ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم. فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك، قال بعضهم لبعض: تعلموا والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم غدوة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه الآن. قالت: فخرجوا في طلبه، وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه، فأخذوه منه؛ ثم جاءوا به، فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك، فملكوه. فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك؟ قالوا: لا نعطيك شيئا، قال: إذن والله أكلمه؛ قالوا: فدونك وإياه. قالت: فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بست مئة درهم، فأسلموا إلي غلامي وأخذوا دراهمي، حتى إذا سرت بغلامي أدركوني، فأخذوا غلامي، ومنعوني دراهمي. قالت: فقال لهم النجاشي: لتُعطُنَّه دراهمه، أو ليضعن غلامه يده في يده، فليذهبن به حيث شاء؛ قالوا: بل نعطيه دراهمه. قالت: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأُطيع الناس فيه. قالت: وكان ذلك أول ما خُبر من صلابته في دينه، وعدله في حكمه .
قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقت ديننا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمتُ فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم؛ ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة، وصفُّوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة؛ قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد؛ قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله؛ فقال النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم، لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا عنه. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما مات النجاشي صلى عليه، واستغفر له .