قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}.. إلى قوله تعالى: {وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف]. وقال تبارك وتعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ .. (1)} [الجن]. إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.
قلت: ويقال أنهم كانوا تسعة.
عن عامر، قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم. وفي رواية: إلى قوله: وآثار نيرانهم. ولم يذكر ما بعده.
رواه مسلم والترمذي.
وأما ما يروى من أن ابن مسعود كان مع النبي (ص) ليلة الجنّ، فهذا باطل، والأحاديث الواردة فيه معلولة الإسناد، والصحيح أن ابن مسعود لم يكن معه، كما ورد في الحديث الصحيح.
وقد أراد ابن قتيبة الدينوري أن يجمع بين الأخبار، فرجّح أن يكون قد سقط من حديث ابن مسعود في قوله: لا، لما سئل: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ حرف، حيث رجّح أن ابن مسعود قال: لا/ إلّا أنا. فسقط من الخبر قوله: "إلّا أنا".
قلت: وهذا باطل، يرده ما ورد في الحديث الصحيح، من أنه كان ممن خشي على النبي (ص)، من أن يكون أغتيل أو أستطير، وأنه كان ممن بات بشر ليلة بات بها قوم، وأنه كان ممن قابل النبي (ص) وهو قادم من حِراء.
ولذلك أقول: أن ما روي من الأحاديث في أن ابن مسعود كان مع النبي ليلة الجن، وما ورد في ذلك من تفاصيل غريبة، وأحاديث عجيبة، إنما هي من وضع بعض الرواة وأكاذيبهم.
ويظهر من حديث ابن مسعود، أن أولئك النفر من الجن، الذين استمعوا للنبي (ص) ببطن نخلة، عادوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإسلام، فأسلم منهم طائفة، فوفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، قد عاد من الطائف، فواعدهم الحجون.
فعن كعب الأحبار أنه قال: لما انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة، وهم: فلان وفلان وفلان والأرْد وأينان والأحقب، جاءوا قومهم منذرين، فخرجوا بعدُ وافدين إلى رسول الله (ص) وهم ثلاثمائة، فانتهوا إلى الحجون، فجاء الأحقب، فسلّم على رسول الله (ص) فقال: إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك. فواعده رسول الله (ص) لساعة من الليل بالحجون.
قلت: ويظهر لي، أن أسماء الجن، إنما هي من وضع الرواة وزياداتهم على القصص.
وما سبق يدلّ على خلط الرواة بين خبر استماع جن نصيبين، لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة، وبين خبر الجن الذين بعثهم إبليس ليعلموا له ما الأمر الذي وقع وحيل بسببه بينهم وبين استراق السمع من السماء.
والله أعلم وأحكم.