غزوة حنين

قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة، جمعها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغاب عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً، وفي ثقيف سيدان لهم، في الأحلاف: قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك: ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري، فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به، فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل ‏!‏ لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، ودُعِي له، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء! قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله، ليقاتل عنهم، قال: فأنقض به، ثم قال: راعي ضأن والله ‏!‏ وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحد والجد، ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر، لا ينفعان ولا يضران، يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم القِ الصُباء على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك، قال: والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك، فقال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني ‏:‏

ياليتني فيها جذع * أخب فيها وأضع

أقود وطفاء الزمع * وكأنها شاة صدع

قال ابن إسحاق: ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد. 

قال ابن إسحاق: وحدثني أمية بن عبدالله بن عمرو بن عثمان أنه حدث: أن مالك بن عوف بعث عيوناً من رجاله، فأتوه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم ‏!‏ ما شأنكم؟ فقالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.

قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام فيهم، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، فأخبره الخبر فقال عمر: كذب ابن أبي حدرد، فقال ابن أبي حدرد: إن كذَّبتني فربما كذَّبت بالحق يا عمر، فقد كذَّبت من هو خير مني، فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كنت ضالاً، فهداك الله يا عمر، فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً له وسلاحاً، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك، فقال: يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غداً، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟ قال: بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى اله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها، ففعل، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة، فكانوا اثني عشر ألفاً، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة، أميراً على من تخلف عنه من الناس، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه يريد لقاء هوازن.

قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي، عن أبي واقد الليثي، أن الحارث بن مالك، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية، قال: فسرنا معه إلى حنين، قال: وكانت كفار قريش ومن سواهم من العرب لهم شجرة عظيمة خضراء، يقال لها: ذات أنواط، يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوماً، قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة خضراء عظيمة، قال: فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، قلتم، والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف]. إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحداراً، قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمن، ثم قال: أين أيها الناس؟ هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله، قال: فلا شيء، حملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس، إلا أنه قد بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه، والفضل بن العباس، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، قتل يومئذ.

قال ابن هشام ‏: ‏اسم ابن أبي سفيان بن الحارث: جعفر، واسم أبي سفيان: المغيرة، وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس، ولا يعد ابن أبي سفيان.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: ورجل من هوزان على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل، أمام هوازن، وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه.

قال ابن إسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته، وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم ‏!‏ فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن.

قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بني عبدالدار، قلت: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال: فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤداي، فلم أطق ذاك، وعلمت أنه ممنوع مني.

قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس بن عبدالمطلب، قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها، قال: وكنت امرأ جسيماً شديد الصوت، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس: أين أيها الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال: يا عباس، اصرخ يا معشر الأنصار: يا معشر أصحاب السمرة، قال: فأجابوا: لبيك لبيك ‏!‏ قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على، ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه ترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلوا الناس، فاقتتلوا، وكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار، ثم خلصت أخيراً: يا للخزرج، وكانوا صُبُراً عند الحرب، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمي الوطيس.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: بينا ذلك الرجل من هوزان صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع، إذ هوى له علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ورجل من الأنصار يريدانه، قال: فيأتيه علي بن أبي طالب من خلفه، فضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل، فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فانجعف عن رحله، قال: واجتلد الناس، فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان ممن صبر يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو أخذ بثفر بغلته، فقال: من هذا؟ قال: أنا ابن أمك يا رسول الله.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التفت فرأى أم سليم بنت ملحان: وكانت مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنها لحامل بعبدالله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خشيت أن يعزها الجمل، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم سليم؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو يكفي الله يا أم سليم، قال: ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به قال: يقول أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم الرميصاء.

قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين وجه إلى حنين، قد ضم بني سليم إلى الضحاك بن سفيان الكلابي، فكانوا إليه ومعه.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، أنه حدث عن أبي قتادة الأنصاري قال: وحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن نافع مولى بني غفار أبي محمد عن أبي قتادة، قالا: قال أبو قتادة: رأيت يوم حنين رجلين يقتتلان: مسلماً ومشركاً، قال: وإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه المشرك على المسلم، قال: فأتيته، فضربت يده، فقطعتها، واعتنقني بيده الأخرى، فوالله ما أرسلني حتى وجدت ريح الدم - ويروى: ريح الموت، فيما قال ابن هشام - وكاد يقتلني، فلولا أن الدم نزفه لقتلني، فسقط، فضربته فقتلته، وأجهضني عنه القتال، ومر به رجل من أهل مكة فسلبه، فلما وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلاً فله سلبه، فقلت: يا رسول الله، والله لقد قتلت قتيلاً ذا سلب، فأجهضني عنه القتال، فما أدري من استلبه؟ فقال رجل من أهل مكة: صدق يا رسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي، فأرضه عني من سلبه، فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: لا والله، لا يرضيه منه، تعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن دين الله، تقاسمه سلبه ‏!‏ اردد عليه سلب قتيله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق اردد عليه سلبه، فقال أبو قتادة: فأخذته منه، فبعته، فاشتريت بثمنه مخرفاً، فإنه لأول مال اعتقدته.

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن أبي سلمة، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: لقد استلب أبو طلحة يوم حنين وحده عشرين رجلاً.

قال ابن إسحاق: فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك، فقتل منهم سبعون رجلاً تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبدالله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قُتِل أخذها عثمان بن عبدالله، فقاتل بها حتى قتل.

قال ابن إسحاق: وأخبرني عامر بن وهب بن الأسود، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله، قال: أبعده الله ‏!‏ فإنه كان يبغض قريشاً.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أنه قتل مع عثمان بن عبدالله غلام له نصراني أغرل، قال: فبينا رجل من الأنصار يسلب قتلى ثقيف، إذ كشف العبد يسلبه، فوجده أغرل، قال: فصاح بأعلى صوته: يا معشر العرب: يعلم الله أن ثقيفا غرل، قال المغيرة بن شعبة: فأخذت بيده، وخشيت أن تذهب عنا في العرب، فقلت: لا تقل ذاك، فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني، قال: ثم جعلت أكشف له عن القتلى، وأقول له: ألا تراهم مختنين كما ترى ‏!‏

قال ابن إسحاق: وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود، فلما انهزم الناس أسند رايته إلى شجرة، وهرب هو وبنو عمه وقومه من الأحلاف، فلم يقتل من الأحلاف غير رجلين: رجل من غِيَرة، يقال له: وهب، وآخر من بني كُبة، يقال له: الجلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه قتل الجلاح: قتل اليوم سيد شباب ثقيف، إلا ما كان من ابن هنيدة، يعني بابن هنيدة الحارث بن أويس.

قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون، أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك في نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة بن يربوع بن سمال بن عوف بن امرؤ القيس، وكان يقال له: ابن الدغنة وهي أمه، فغلبت على اسمه، ويقال: ابن لذعة فيما قال ابن هشام: - دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه في شجار له، فإذا برجل، فأناخ به، فإذا شيخ كبير، وإذا هو دريد بن الصمة ولا يعرفه الغلام ‏!‏ فقال له دريد: ماذا تريد بي؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي، ثم ضربه بسيفه، فلم يغن شيئاً، فقال: بئس ما سلَّحتك أمك ‏!‏ خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل، وكان الرحل في الشجار، ثم أضرب به، وارفع عن العظام، وأخفض عن الدماغ، فإني كنت كذلك أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب والله يوم قد منعت فيه نساءك، فزعم بنو سليم أن ربيعة لما ضربه فوقع تكشف، فإذا عجانه وبطون فخذيه، مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء، فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت: أما والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً.

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه قِبَل أوطاس أبا عامر الأشعري، فأدرك من الناس بعض من انهزم، فناوشوه القتال، فرُمِي أبو عامر بسهم فقُتِل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري، وهو ابن عمه، فقاتلهم، ففتح الله على يديه وهزمهم، فيزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم، فأصاب ركبته، فقتله، واستحر القتل من بني نصر في بني رئاب، فزعموا أن عبدالله بن قيس - وهو الذي يقال له ابن العوراء، وهو أحد بني وهب بن رئاب - قال: يا رسول الله، هلكت بنو رئاب، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اجبر مصيبتهم، وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة، فوقف في فوارس من قومه، على ثنية من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم، وتلحق أخراكم، فوقف هناك حتى مضى من كان لحق بهم من مهزمة الناس.

قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم بالشعر، وحديثه: أن أبا عامر الأشعري لقي يوم أوطاس عشرة أخوة من المشركين، فحمل عليه أحدهم، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر، ثم حمل عليه آخر، فحمل عليه أبو عامر، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر: ثم جعلوا يحملون عليه رجلاً رجلاً، ويحمل أبو عامر وهو يقول ذلك، حتى قتل تسعة، وبقي العاشر، فحمل على أبي عامر، وحمل عليه أبو عامر، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقال الرجل: اللهم لا تشهد علي، فكف عنه أبو عامر فأفلت، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال: هذا شريد أبي عامر، ورمى أبا عامر أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث، من بني جشم بن معاوية، فأصاب أحدهما قلبه، والآخر ركبته، فقتلاه، وولي الناس أبو موسى الأشعري فحمل عليهما فقتلهما.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر يومئذ بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد، والناس متقصفون عليها فقال: ما هذا؟ فقالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه: أدرك خالداً، فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة أو عسيفاً.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض بني سعد بن بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: إن قدرتم على بجاد، رجل من بني سعد بن بكر، فلا يفلتنكم، وكان قد أحدث حدثاً، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء، بنت الحارث بن عبدالعزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق، فقالت للمسلمين: تعلموا والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدي، قال: فلما انتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا رسول الله، إني أختك من الرضاعة، قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك، قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه، فأجلسها عليه، وخيرها، وقال: إن أحببت فعندي محبة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت، فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردها إلى قومها، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما له يقال له مكحول، وجارية، فزوجت أحدهما الأخرى، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية، ثم جمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها، وكان على المغانم مسعود بن عمرو الغفاري، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال إلى الجعرانة، فحبست بها.