انقياد العرب وإسلامهم

قال ابن إسحاق: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه.

قال ابن هشام ‏:‏حدثني أبو عبيدة: أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى سنة الوفود.

قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة، ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجا يضربون إليه من كل وجه يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر]. أي: فاحمد الله علي ما أظهر من دينك واستغفره إنه كان توابا.

قال ابن إسحاق: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود العرب، فقدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي، في أشراف بني تميم، منهم الأقرع بن حابس التميمي، والزبرقان بن بدر التميمي، أحد بني سعد، وعمرو بن الأهتم، والحبحاب بن يزيد.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر، فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم، فقدم عامر بن الطفيل عدو الله، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم، قال: والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ‏!‏ ثم قال لأربد: إذا قدمنا على الرجل، فإني سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عامر بن الطفيل: يا محمد، خالني، قال: لا والله، حتى تؤمن بالله وحده، قال: يا محمد، خالني، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يحير شيئاً، قال: فلما رأى عامر ما يصنع أربد، قال: يا محمد خالني، قال: لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، فلما أبي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً، فلما ولي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامر بن الطفيل، فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد: ويلك يا أربد ‏!‏ أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً، قال: لا أبا لك ‏!‏ لا تعجل علي، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل، حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف ‏؟‏ وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر، أغدة كغدة البَكر في بيت امرأة من بني سلول ‏!‏

قال ابن هشام ‏:‏ويقال أغدة كغدة الإبل، وموتا في بيت سلولية ‏!‏

قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين واروه، حتى قدموا أرض بني عامر شاتين، فلما قدموا أتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء والله، لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن، فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه، فأرسل الله تعالى عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما. وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه.

قال ابن إسحاق: وبعث بنو سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا منهم يقال له ضمام بن ثعلبة.

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب، مولى عبدالله بن عباس، عن ابن عباس قال: بعثت بنو سعد بن بكر، ضمام بن ثعلبة، وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبدالمطلب قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبدالمطلب، قال: أمحمد؟ قال: نعم، قال: يا ابن عبدالمطلب، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن في نفسك، قال: لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك، قال: أنشدك الله، إلهك وإله من كان قبلك، وإله من كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تصلى هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم، قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره راجعاً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة، قال فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى ‏!‏ قالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً، قال: يقول عبدالله بن عباس: فما سمعنا بوافد قومٍ كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش أخو عبدالقيس.

قال ابن هشام ‏:‏الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبدالقيس وكان نصرانياً.

قال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن الحسن قال: لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فقال: يا محمد إني قد كنت على دين، وإني تارك ديني لدينك، أفتضمن لي ديني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه، قال: فأسلم وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُملان، فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه، قال: يا رسول الله، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟ قال: لا، إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار ‏، فخرج من عنده الجارود راجعاً إلى قومه، وكان حسن الإسلام، صلباً على دينه، حتى هلك وقد أدرك الرِدّة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر، قام الجارود فتكلم، فتشهد شهادة الحق، ودعا إلى الإسلام فقال: أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر من لم يشهد.

قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم فحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل رِدة أهل البحرين، والعلاء عنده أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب، فكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار، ثم من بني النجار، فحدثني بعض علمائنا من المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، معه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يسترونه بالثياب، كلمه وسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا ‏، زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا، وفي ركابنا يحفظها لنا، قال: فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال: أما إنه ليس بشركم مكاناً أي: لحفظه ضيعة أصحابه، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوه بما أعطاه، فلما انتهوا إلى اليمامة، ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم، وقال: إني قد أُشرِكْتٌ في الأمر معه، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكاناً، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أُشرِكت في الأمر معه، ثم جعل يسجع لهم الأساجيع، ويقول لهم: فيما يقول مضاهاة للقرآن: ‏لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى. وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي، فأصفقت معه حنيفة على ذلك، فالله أعلم أي ذلك كان.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ، فيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلموا، فحسن إسلامهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني من لا أتهم من رجال طيئ: ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني، إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه، ثم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد الخير، وقطع له فيدا وأرضين معه، وكتب له بذلك، فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه - قال: قد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى، وغير أم ملدم، فلم يثبته - فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال له فردة أصابته الحمى بها فمات، فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معه من كتبه، التي قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحرقتها بالنار.

قال ابن إسحاق: وأما عدي بن حاتم فكان يقول، فيما بلغني: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرأ شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير في قومي بالمرباع، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكاً في قومي، لما كان يُصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي، راعيا لإبلي: لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللاً سماناً، فاحتبسها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد، قال: فقلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الجوشية، ويقال: الحوشية، وتخالفني خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصيب ابنة حاتم، فيمن أصابت، فقُدِم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيئ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام، قال: فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يحبسن فيها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الولد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك، قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله؟ قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد مر بي، فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي، وقد يئست منه، فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه، قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني، فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن أكلمه، فقيل: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام، قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوِّب إلي تَؤُمُّنا، قال: فقلت ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي انسحلَّت تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك، عورتك ‏!‏ قال: قلت: أي أخيه لا تقولي إلا خيرا، فوالله ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت، قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها: وكان امرأة حازمة، ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن، وأنت أنت، قال: قلت: والله إن هذا الرأي، قال فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك ‏!‏ قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا دخل في بيته، تناول وسادة في أدم محشوة ليفا، فقذفها إلي، فقال: اجلس على هذه، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسيا؟ قال: قلت: بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت: أجل والله، وقال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم، وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله، ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، قال: فأسلمت، وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها، لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وأيم الله لتكون الثالثة، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه.

قال ابن إسحاق: وقدم فروة بن مسيك المرادي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة، ومباعداً لهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا، حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له: يوم الردم، فكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك في ذلك اليوم.

قال ابن هشام: الذي قاد همدان في ذلك اليوم مالك بن حريم الهمداني.

قال ابن إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني -: يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم؟ قال: يا رسول الله، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك ‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيراً، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد، فأسلم، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادي، حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز، يقول إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبياً كما يقول، فإنه لن يخفي عليك، وإذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبي عليه قيس ذلك، وسفَّه رأيه، فركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وصدقه، وآمن به، فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح، أوعد عمراً، وتحطم عليه، وقال: خالفني وترك رأيي، فأقام عمرو بن معديكرب في قومه من بني زبيد، وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو بن معديكرب.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس، في وفد كندة فحدثني الزهري بن شهاب أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانين راكباً من كندة، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، وقد رجلوا جممهم وتكحلوا، وعليهم جبب الحبرة، وقد كففوها بالحرير، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألم تسلموا؟ قالوا: بلى، قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟ قال: فشقوه منها، فألقوه، ثم قال الأشعث بن قيس: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبدالمطلب، وربيعة بن الحارث، وكان العباس وربيعة رجلين تاجرين، وكانا إذا شاعا في بعض العرب، فسئلا ممن هما، قالا نحن بنو آكل المرار، يتعززان بذلك، وذلك أن كندة كانوا ملوكاً، ثم قال لهم: لا بل نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا، فقال الأشعث بن قيس: هل فرغتم يا معشر كندة؟ والله لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين.

قال ابن هشام: الأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قِبَل النساء.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبدالله الأزدي، فأسلم، وحسن إسلامه، في وفد من الأزد، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك، من قبل اليمن، فخرج صرد بن عبدالله يسير بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل بجرش، وهي يومئذ مدينة مغلقة، وبها قبائل من قبائل اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم، فدخلوها معهم حين سمعوا بسير المسلمين إليهم، فحاصروهم فيها قريباً من شهر، وامتنعوا فيها منه ثم رجع عنهم قافلاً، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له كشر، ظن أهل جرش أنه إنما ولي عنهم منهزما، فخرجوا في طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم، فقتلهم قتلاً شديداً، وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران، فبينا هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية بعد صلاة العصر، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأي بلاد الله كشر؟ فقام إليه الجرشيان، فقالا: يا رسول الله، ببلادنا جبلاً يقال له كشر، وكذلك يسميه أهل جرش، فقال: إنه ليس بكشر، ولكنه شكر، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن، قال: فجلس الرجلان إلى أبي بكر، أو إلى عثمان، فقال لهما: ويحكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينعى لكما قومكما، فقوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما، فقاما إليه، فسألاه ذلك، فقال: اللهم ارفع عنهم، فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبدالله، في اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر، وخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، وحمى لهم حول قريتهم، على أعلام معلومة، للفرس والراحلة وللمثيرة، وبقرة الحرث، فمن رعاه من الناس فمالهم سحت.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير، مقدمة من تبوك، ورسولهم إليه بإسلامهم، الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان، قيل ذي رعين ومعافر وهمدان، وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم، ومفارقتهم الشرك وأهله، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله النبي، إلى الحارث بن عبد كلال، وإلى نعيم بن عبد كلال، وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان، أما بعد ذلكم: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به، وخبرنا ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم الرسول وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار، عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر، وأن في الإبل الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع، جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة، وأنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدى ذلك، وأشهد على إسلامه، وظاهر المؤمنين على المشركين، فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وله ذمة الله وذمة رسوله، وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني، فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية، على كل حال ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار واف، من قيمة المعافر، أو عوضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله، أما بعد: فإن رسول الله محمداً النبي، أرسل إلى زرعة ذي يزن، أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً، معاذ بن جبل، وعبدالله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرة، وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي، وأن أميرهم معاذ بن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا، أما بعد: فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم أن مالك بن مرة الرهاوي، قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيراً، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإن رسول الله هو ولي غنيكم وفقيركم، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته، إنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وأن مالكاً قد بلغ الخبر، وحفظ الغيب، وآمركم به خيراً، وإني قد أرسلت إليهم من صالحي أهلي وأولي دينهم وأولي علمهم، وآمرك بهم خيراً، فإنهم منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بعث معاذاً أوصاه، وعهد إليه، ثم قال له: يسر ولا تعسر، وبشر ولا تنفر، وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب، يسألونك ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فخرج معاذ، حتى إذا قدم اليمن قام بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتته امرأة من أهل اليمن، فقالت: يا صاحب رسول الله، ما حق زوج المرأة عليها؟ قال: ويحك ‏!‏ إن المرأة لا تقدر على أن تؤدي حق زوجها، فأجهدي نفسك في أداء حقه ما استطعت، قال: والله لئن كنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لتعلم ما حق الزوج على المرأة، قال: ويحك ‏!‏ لو رجعت إليه فوجدته تنثعب منخراه قيحاً ودماً فمصصت ذلك حتى تذهبيه ما أديت حقه.

قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي، ثم النفاثي، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية، قبل خيبر، رفاعة بن زيد الجذامي، ثم الضبيبي، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً، وأسلم فحسن إسلامه، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى قومه.

قال ابن هشام: وقدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حدثني من أثق به، عن عمرو بن عبدالله بن أذينة العبدي، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: قدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم مالك بن نمط، وأبو ثور، وهو ذو المشعار، ومالك بن أيفع، وضمام بن مالك السلماني، وعميرة بن مالك الخارفي، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات، والعمائم العدنية، برحال الميس على المهرية والأرحبية.