قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات، إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسي وهو بها، وبعث زياد بن لبيد، أخا بني بياضة الأنصاري، إلى حضرموت وعلى صدقاتها، وبعث عدي بن حاتم على طيئ وصدقاتها وعلى بني أسد، وبعث مالك بن نويرة- قال ابن هشام: اليربوعي- على صدقات بني حنظلة، وفرق صدقة بني سعد - بن زيدمناة بن تميم - على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها، وقيس بن عاصم على ناحية، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين، وبعث علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى أهل نجران، ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم.
وعن أبى بردة -رضي الله عنه- قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وبعث كل واحد منهما على مخلاف. واليمن مخلافان. ثم قال: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا. وفى رواية: وتطاوعا ولا تختلفا. وانطلق كل واحد منهما إلى عمله. قال: وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريباً من صاحبه أحدث به عهداً فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريباً من صاحبه أبى موسى، فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه، فإذا هو جالس وقد اجتمع الناس إليه، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: يا عبدالله بن قيس أيُّم هذا، أي ما هذا؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه. قال: لا أنزل حتى يقتل. قال: إنما جيء به لذلك فانزل. قال: ما أنزل حتى يقتل فأمر به فقتل. ثم نزل. فقال: يا عبدالله كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوق. قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
رواه البخاري.
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذ جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
رواه البخاري ومسلم.
وعن معاذ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بعثه إلى اليمن قال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد وإني لا آلو. قال: فضرب رسول الله صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله.
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أنه لما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن خرج معه يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشى تحت راحلته، فلما فرغ قال: يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدى هذا وقبري. فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم التفت بوجهه نحو المدينة فقال: إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا.
رواه أحمد.
وفي رواية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: لا تبكِ يا معاذ، للبكاء أوان، البكاء من الشيطان.
رواه أحمد.
وقال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى، سنة عشر، إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس، أسلموا تسلموا. فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبذلك كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا.
وعن البراء بن عازب قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه، قال: مُر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل، فكنت فيمن عقب معه، قال: فغنمت أواقي ذات عدد.
رواه البخاري.
وعن بريدة بن الحصيب قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليا، فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا بريدة تبغض عليا؟ فقلت نعم! فقال: لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك.
رواه البخاري.
وفي رواية قال: أبغضت عليا بغضا لم أبغضه أحدا قط، قال: وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا، قال: فبُعِث ذلك الرجل على خيل فصحبته، ما أصحبه إلا على بغضه عليا، قال: فأصبنا سبيا، قال: فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابعث إلينا من يخمسه، قال: فبعث إلينا عليا، وفي السبي وصيفة من أفضل السبي، قال: فخمس وقسم، فخرج ورأسه يقطر، فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟ فقال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي، فإني قسمت وخمست فصارت في الخمس، ثم صارت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صارت في آل علي، ووقعت بها، قال: فكتب الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابعثني، فبعثني مصدقا، فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق، قال: فأمسك يدي والكتاب فقال: أتبغض عليا؟ قال: قلت نعم. قال: فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبا، فو الذي نفس محمد بيده، لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة. قال: فما كان من الناس أحد بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي من علي.
رواه أحمد.
قوله: "وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا" يريد خالد بن الوليد رضي الله عنهم جميعا.
وقوله: "فبعثني مصدِّقاً" أي: بعثني لأصدّقه فيما ذكره من خبر عليّ بن أبي طالب مع الوصيفة.
وعن ابن إسحاق قال: فأقبل خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب، منهم قيس بن الحصين ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادي، وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم، قال: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند، قيل: يا رسول الله، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب، فلما وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلموا عليه، وقالوا: نشهد أنك رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا، فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثالثة، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة، فقال يزيد بن عبد المدان: نعم، يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن خالدا لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا، لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم، فقال يزيد ابن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا، قال: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله، قال: صدقتم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: لم نكن نغلب أحدا، قال: بلى، قد كنتم تغلبون من قاتلكم، قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله إنا كنا نجتمع ولا نفترق، ولا نبدأ أحدا بظلم، قال: صدقتم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين. فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال، أو في صدر ذي القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحم وبارك، ورضي وأنعم.
قلت: لما رجع بنو الحارث بن كعب إلى أهليهم، حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ومات بعد حجة الوادع بأشهر.