قال ابن إسحاق: وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عز وجل، ولم يأمرهم بقتال، وكان ممن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً، فوطئ بني جذيمة، فأصاب منهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب: سليم بن منصور، ومدلج بن مرة، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة: قال: لما أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة ! إنه خالد والله ! ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً، قال: فأخذه رجال من قومه، فقالوا: يا جحدم، أتريد أن تسفك دماءنا؟ إن الناس أسلموا ووضعوا السلاح، ووضعت الحرب، وأمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد.
قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك، فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.
قال ابن هشام: وحدثني أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنكر عليه أحد؟ فقال: نعم، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة، فنهمه خالد، فسكت عنه، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب، فراجعه، فاشتدت مراجعتهما، فقال عمر بن الخطاب: أما الأول يا رسول الله فابني عبدالله، وأما الآخر فسالم، مولى أبي حذيفة.
قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى أنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي رضوان الله عليه حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال، احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر: فقال: أصبت وأحسنت ! قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه، حتى إنه ليرى مما تحت منكبيه، يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات.
قال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالداً: إنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبدالله بن حذافة السهمي، وقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام.
قال ابن هشام: قال أبو عمرو المدني: لما أتاهم خالد، قالوا: صبأنا صبأنا.
قلت: قول ابن إسحاق أن النبي بعث خالداً داعياً لا مقاتلاً غير صحيح، والذي يظهر من الأخبار أن النبي بعثه داعياً ومقاتلاً لمن أبى الإسلام، وكانت جذيمة وسائر كنانة ممن أبو الإسلام، فلما ظهر النبي على قريش وأسلمت، اسلم بنو جذيمة طوعاً ولم يعلم خالدٌ بإسلامهم، فلما أغار عليهم قالوا: صبأنا صبأنا، أي: خرجنا من دين الشرك إلى الإسلام، بمعنى: أسلمنا، وكانوا يسمون المسلم في جاهليّتهم صابئ، أي: خارج، فلم يدر خالد ما يريدون بقولهم هذا، فقتلهم، فوقع قنتلهم خطأً لا عمداً، لذلك ودّاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعاقب خالد بن الوليد.