غزوة مؤتة

قال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتابه، فلما نزل مؤتة عرض للحارث شرحبيل بن عمرو الغساني، فقال: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، فأمر به فضربت عنقه. ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فاشتد عليه، وندب الناس فأسرعوا. وكان ذلك سبب خروجهم إلى غزوة مؤتة.

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبدالله ابن رواحة على الناس، فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودّع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم، فلما ودع عبدالله بن رواحة من ودع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل، يذكر فيها النار: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71)} [مريم] فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود. فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، ثم مضوا حتى نزلوا معان، في أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب، من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلى ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن زافلة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له، قال: فشجع الناس عبدالله بن رواحة، وقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون، للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة، قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة.

قال ابن إسحاق: فمضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل، من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لها المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له: عباية بن مالك، ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل، فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل.

قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم: أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة، فقطعه بنصفين.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، قال: فلما قتل جعفر أخذ عبدالله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا ‏!‏ ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم، وحاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.

قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً، قال: ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة، فيما يرى النائم، على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عَمَّ هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبدالله بعض التردد، ثم مضى.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر بن محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين مَنّا - قال ابن هشام: ويروى أربعين منيئة - وعجنت عجيني، وغسلت بَنِيَّ ودهَّنتهم ونظَّفتهم، قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتني ببني جعفر، قالت: فأتيته بهم فتشممهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، أصيبوا هذا اليوم، قالت: فقمت أصيح، واجتمعت إلي النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاماً، فإنهم قد شُغِلوا بأمر صاحبهم.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن، قالت: فدخل عليه رجل فقال: يا رسول الله، إن النساء عنيننا وفتننا، قال: فارجع إليهن فأسكتهن، قالت: فذهب ثم رجع، فقال له مثل ذلك - قال: تقول وربما ضر التكلف أهله - قالت: قال: فاذهب فأسكتهن، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب، قالت: وقلت في نفسي: أبعدك الله ‏!‏ فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وعرفت أنه لا يقدر على أن يحثي في أفواههن التراب، فلما انصرف خالد بالناس أقبل بهم قافلاً.

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال: لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قال: ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبدالله فأخذه فحمله بين يديه، قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله!‏ قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، عن عامر بن عبدالله بن الزبير، عن بعض آل الحارث بن هشام: وهم أخواله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين‏؟‏ قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس يا فرار، فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته فما خرج.