قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا، ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة أن رجلاً من بني الحضرمي، واسمه مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة، عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قُبَيل الإسلام على بني الأسود بن رزان الديلي - وهم منخر بني كنانة وأشرافهم - سلمى وكلثوم وذؤيب - فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم، قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من بني الديل، قال: كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودي دية دية، لفضلهم فينا.
قلت: قول ابن إسحاق: قتلوهم عند أنصاب الحرم. أي: عند حدود الحرم المكيّ، وقبل أن يدخلوا فيه. والحرم المكيّ أرض واسعة، يتوسطها المسجد الحرام، والكعبة المشرّفة.
قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم، كما حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وغيرهم من علمائنا: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
قال ابن إسحاق: فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل، وهو يومئذ قائدهم، وليس كل بني بكر تابعه حتى بيت خزاعة وهم على الوتير، ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً، وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال: كلمة عظيمة، لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه، وقد أصابوا منهم ليلة بيَّتوهم بالوتير رجلاً، يقال له: منبه، وكان منبه رجلاً مفؤداً خرج هو ورجل من قومه يقال له: تميم بن أسد، وقال له منبه: يا تميم انج بنفسك، فأما أنا فوالله إني لميت، قتلوني أو تركوني، لقد إنبتَّ فؤادي، وانطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه، فلما دخلت خزاعة مكة، لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له: رافع.
قال ابن إسحاق: ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليشد العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: تسيرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي، قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا، فلما راح بديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وعندها حسن بن علي، غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمَسَّ القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، فاشفع لي إلى رسول الله، فقال: ويحك يا أبا سفيان ! والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة، فقال: يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بُنَيَّكِ هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بُنَيِّ ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله، ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس إني أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز لك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك ! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية: أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، فتجهز الناس.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبدالمطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالخليقة، خليقة بني أبي أحمد، فاستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال: يا حاطب ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم، فأنزل الله تعالى في حاطب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ .. } إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ .. } [الممتحنة]. إلى آخر القصة.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن عبدالله بن عباس، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد، بين عسفان وأمج أفطر.
قال ابن إسحاق: ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم، وبعضهم يقول ألفت سليم، وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدرون ما هو فاعل، وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، يتحسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به، وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق.
قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فيما ذكر ابن شهاب الزهري.
قال ابن إسحاق: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب، فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وابن عمتك وصهرك، قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال، قال: فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بُنَيٌّ له، فقال: والله ليأذنن لي أو لأخذن بيدي بُنَيَّ هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه، فأسلما.
قال ابن إسحاق: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال العباس بن عبدالمطلب: فقلت: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها، قال: حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة، قال: فوالله إني لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان وحكيم بن حزام، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً، قال: يقول حكيم: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قال: قلت: نعم، قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله، قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، قال: فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبا سفيان عدو الله ! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء، قال: فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه، قال: قلت: مهلاً يا عمر، فوالله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به، قال: فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! والله قد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأ مي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً، فقال له العباس: ويحك ! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق، فأسلم، قال العباس: قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباس، أحبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها، قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه، قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء.
قال ابن هشام: وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها.
قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار، رضي الله عنهم، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله: يا عباس من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن، قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قُبِّح من طليعة قوم !، قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله ! وما تغنى عنا دارك، قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حبرة حمراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى قال أبو قحافة لابنةٍ من أصغر ولده: أي بُنَيَّة، اظهري بي على أبي قبيس، قالت: وقد كف بصره، قالت: فأشرفت به عليه، فقال: أي بنية، ماذا ترين؟ قالت: أرى سواداً مجتمعاً، قال: تلك الخيل، قالت: وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك مقبلاً ومدبراً، قال: أي بنية، ذلك الوازع، يعني: الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها، ثم قالت: قد والله انتشر السواد، قالت: فقال: قد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي، فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته، قالت: وفي عنق الجارية طوق من ورق، فتلقاها رجل فيقتطعه من عنقها، قالت: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟ قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، قال: قالت: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: أسلم، فأسلم، قال: فدخل به أبو بكر وكأن رأسه ثغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيروا هذا من شعره، ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته، وقال: أنشد الله والإسلام طوق أختي، فلم يجبه أحد، قالت: فقال: أي أُخَيَّه، احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء.
قال ابن إسحاق: فزعم بعض أهل العلم أن سعداً حين وجه داخلاً، قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين - قال ابن هشام: هو عمر بن الخطاب - فقال: يا رسول الله: اسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: أدركه، فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبدالله بن أبي نجيح في حديثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد، فدخل من الليط، أسفل مكة في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب، وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاخر، حتى نزل بأعلى مكة، ضربت له هنالك قبته.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح وعبدالله بن أبي بكر: أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناساً بالخندمة ليقاتلوا، وقد كان حماس بن قيس بن خالد، أخو بني بكر، يعد سلاحاً قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلح منه، قالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد، ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كرز بن جابر، أحد بني محارب بن فهر، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم، حليف بني منقذ، وكانا في خيل خالد بن الوليد فشذا عنه فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، قتل خنيس بن خالد قبل كرز بن جابر فجعله كرز بن جابر بين رجليه، ثم قاتل عنه حتى قتل.
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي نجيح وعبدالله بن أبي بكر، قالا: وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء، من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين ناس قريب من أثني عشر رجلاً، أو ثلاثة عشر رجلاً، ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته: أغلقي علي بابي، قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمة * إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد قائم كالموتمة * واستقبلهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة * ضرباً فلا يسمع إلا غمغمة
لهم نهيت خلفنا وهمهمة * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وحنين والطائف، شعار المهاجرين: يا بني عبدالرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبدالله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين، حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم عبدالله بن سعد، أخو بني عامر بن لؤي، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه قد كان أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فارتد مشركاً راجعاً إلى قريش، ففر إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه للرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة، فاستأمن له فزعموا أن رسول الله صمت طويلاً، ثم قال: نعم، فلما انصرف عنه عثمان، قال رسول الله: لمن حوله من أصحابه: لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟ قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة.
قال ابن إسحاق: وعبدالله بن خطل، رجل من بني تيم بن غالب: إنما أمر بقتله أنه كان مسلماً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه، وكان مسلماً، فنزل منزلاً، وأمر المولى أن يذبح له تيساً، فيصنع له طعاماً، فنام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركاً.
قلت: من بني تيم الأدرم بن غالب، وكان يقال لهم: بنو الأدرم.
قال ابن إسحاق: وكانت له قينتان: فرتنى وصاحبتها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معه.
قال ابن هشام: وكان العباس بن عبدالمطلب حمل فاطمة وأم كلثوم، ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة، فنخس بهما الحويرث بن نقيذ، فرمى بهما إلى الأرض.
قال ابن إسحاق: ومقيس بن صبابة: وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقتله لقتل الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركاً، وكانت سارة ممن يؤذيه بمكة، فأما عكرمة فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنه، فخرجت في طلبه إلى اليمن، حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وأما عبدالله بن خطل، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، اشتركا في دمه، وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله، رجل من قومه، وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فأمنها، وأما سارة فاستؤمن لها فأمنها، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها.
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة، مولى عقيل بن أبي طالب، أن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فر إلي رجلان من أحمائي، من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل علي علي بن أبي طالب أخي، فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إلي، فقال: مرحباً وأهلاً يا أم هانئ، ما جاء بك؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال: قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما.
قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبدالله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعاً على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} .. الآية كلها. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء.
قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: إنما أعطيكم ما ترزءون لا ما ترزءون.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام!{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران]. ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست.
قال ابن هشام: وحدثني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ومعه بلال، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلف بلال، فدخل عبدالله بن عمر على بلال، فسأله: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولم يسأله كم صلى، فكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قبل وجهه، وجعل الباب قبل ظهره، حتى يكون بينه وبين الجدار قدر ثلاث أذرع، ثم يصلي، يتوخى بذلك الموضع الذي قال له بلال.
قال ابن هشام: وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.
قال ابن إسحاق: حدثني سعيد بن أبي سندر الأسلمي، عن رجل من قومه، قال: كان معنا رجل يقال له أحمر بأسا، وكان رجلاً شجاعاً، وكان إذا نام غط غطيطاً منكراً لا يخفى مكانه، فكان إذا بات في حيه بات معتنزاً، فإذا بُيِّت الحي صرخوا يا أحمر، فيثور مثل الأسد، لا يقوم لسبيله شيء، فأقبل غزي من هذيل يريدون حاضره، حتى إذا دنوا من الحاضر، قال ابن الأثوع الهذلي: لا تعجلوا علي حتى أنظر، فإن كان في الحاضر أحمر فلا سبيل إليهم، فإن له غطيطاً لا يخفى، قال: فاستمع فلما سمع غطيطه مشى إليه حتى وضع السيف في صدره، ثم تحامل عليه حتى قتله، ثم أغاروا على الحاضر، فصرخوا يا أحمر ولا أحمر لهم، فلما كان عام الفتح، وكان الغد من يوم الفتح، أتي ابن الأثوع الهذلي حتى دخل مكة ينظر ويسأل عن أمر الناس، وهو على شركه، فرأته خزاعة، فعرفوه، فأحطوا به وهو إلى جنب جدار من جدر مكة، يقولون: أأنت قاتل أحمر؟ قال: نعم، أنا قاتل أحمر فمه؟ قال: إذ أقبل خراش بن أمية مشتملاً على السيف، فقال: هكذا عن الرجل، ووالله ما نظن إلا أنه يريد أن يفرج الناس عنه، فلما انفرجنا عنه حمل عليه فطعنه بالسيف في بطنه، فوالله لكأني أنظر إليه وحشوته تسيل من بطنه، وإن عينيه لترنقان في رأسه، وهو: يقول أقد فعلتموها يا معشر خزاعة؟ حتى انجعف فوقع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خراش بن أمية، قال: إن خراشاً لقتال، يعيبه بذلك.
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبدالله بن الزبير، جئته، فقلت له: يا هذا، إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً، فقال: يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً، لم تحلل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة، غضبا على أهلها، ألا، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله قد قاتل فيها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله، ولم يحللها لكم، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، فلقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله، ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة، فقال عمرو لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية، فقال أبو شريح: إني كنت شاهداً وكنت غائباً، لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك، فأنت وشأنك.
قال ابن هشام: وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح جنيدب بن الأكوع، قتلته بنو كعب، فوداه بمائة ناقة.
قال ابن هشام: وبلغني عن يحيى بن سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها، قام على الصفا يدعو الله، وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلما يزل بهم حتى أخبروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله ! المحيا محياكم، والممات مماتكم.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عيه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء]. فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه، إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع.
قال ابن هشام: وحدثني أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضالة؟ قال: نعم فضالة يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول :
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والإسلام
لوما رأيت محمداً وقبيله * بالفتح يوم تُكسَّر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بيِّنا * والشرك يغشى وجهه الإظلام
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر، عن عروة بن الزبير، قال: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً منك، ليقذف نفسه في البحر، فأمِّنْه، صلى الله عليك، قال: هو آمن، قال: يا رسول الله، فأعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه، وهو يريد أن يركب في البحر، فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به، قال: ويحك ! أغرب عني فلا تكلمني، قال: أي صفوان، فداك أبي وأمي، أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذاك وأكرم، فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتنى، قال: صدق، قال: فاجعلني فيه بالخيار شهرين، قال: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر.
قال ابن هشام: وحدثني رجل من قريش من أهل العلم أن صفوان قال لعمير: ويحك ! اغرب عني، فلا تكلمني، فإنك كذاب، لما كان صنع به، وقد ذكرناه في آخر حديث يوم بدر.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وفاختة بنت الوليد - وكانت فاختة عند صفوان بن أمية، وأم حكيم عند عكرمة بن أبي جهل - أسلمتا، فأما أم حكيم فاستأمنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لعكرمة، فأمنه، فلحقت به باليمن، فجاءت به، فلما أسلم عكرمة وصفوان أقرهما رسول الله صلى الله عليه سلم عندهما على النكاح الأول.
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت: قال: رمى حسان، ابن الزبعرى، وهو بنجران، ببيت واحد ما زاده عليه :
لا تعدمن رجلاً أحلك بغضه * نجران في عيش أَحَذَّ لئيم
فلما بلغ ذلك ابن الزبعرى خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم.
قال ابن إسحاق: وأما هبيرة بن أبي وهب المخزومي فأقام بها حتى مات كافراً، كانت عنده أم هانئ بنت أبي طالب، واسمها هند.
قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من بني سليم سبع مائة، ويقول بعضهم: ألف، ومن بني غفار: أربع مائة، ومن أسلم: أربع مائة، ومن مزينة: ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.