قال ابن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عَضَل والقارة. فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرا ستة من أصحابه، وهم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، حليف حمزة بن عبدالمطلب، وخالد بن البكير الليثي، حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أخو بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وخبيب بن عدي، أخو بني جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة بن معاوية، أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غصب بن جشم بن الخزرج، وعبدالله بن طارق، حليف بني ظفر بن الخزرج بن عمرو بن ملاك بن الأوس. وأمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فخرج مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل بناحية الحجاز، على صدور الهدأة غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم، وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم. فأما مرثد بن أبي مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا، وكان عاصم بن ثابت يكنى: أبا سليمان. ثم قاتل القوم حتى قتل وقتل صاحباه. فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه، ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فمنعه الدبر، فلما حالت بينه وبينهم، قالوا: دعوه يمسي فتذهب عنه. فنأخذه فبعث الله الوادي، فاحتمل عاصما، فذهب به. وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا أبدا، تنجسا، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: حين بلغه أن الدبر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا أبدا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته. وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي، وعبدالله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا إلى مكة، ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبدالله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره، رحمه الله، بالظهران، وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة. فابتاع خبيبا حُجير بن أبي إهاب التميمي، حليف بني نوفل، لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه لقتله بأبيه. وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، أمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له، يقال له نسطاس، إلى التنعيم، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه. واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قُدِّم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك ؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي. قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدٍ محمدا، ثم قتله نِسطاس، يرحمه الله. وأما خبيب بن عدي، فحدثني عبدالله بن أبي نجيح، أنه حُدّث عن ماوية، مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان خبيب عندي، حبس في بيتي، فلقد اطلعت عليه يوما، وإن في يده لقطفا من عنب، مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل. وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي نجيح جميعا أنها قالت: قال لي حين حضَره القتل: ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل، قالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت: ادخل بها على هذا الرجل البيت، قالت: فوالله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعت، أصاب والله الرجل ثأره بقتل هذا الغلام، فيكون رجلا برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك، ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي، ثم خلى سبيله. قال عاصم: ثم خرجوا بخبيب، حتى إذا جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه، قال لهم: إن رأيتم ان تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال :أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. قال: فكان خبيب بن عدي أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين. قال: ثم رفعوه على خشبة، فلما أوثقوه، قال: اللهم إنّا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم احدا. ثم قتلوه رحمه الله. فكان معاوية بن أبي سفيان يقول: حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دعي عليه، فاضطجع لجنبه زالت عنه.
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث، قال: سمعته يقول: ما أنا والله قتلت خبيبا، لأني كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة، أخا بني عبدالدار، أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة، ثم طعنه بها حتى قتله.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل سعيد بن عامر بن حِذْيَم الجمحي على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية، وهو بين ظهري القوم، فذكر ذلك لعمر ابن الخطاب، وقيل: إن الرجل مصاب، فسأله عمر في قدمة قدمها عليه، فقال: يا سعيد، ما هذا الذي يصيبك ؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل، وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غشي علي، فزادته عند عمر خيرا.
قال ابن إسحاق: وكان الذين أجلبوا على خبيب في قتله حين قُتِل من قريش، عكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عبدالله بن أبي قيس بن عبد ود، والأخنس بن شريق الثقفي، حليف بني زهرة، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي، حليف بني أمية بن عبد شمس، وأمية بن أبي عتبة، وبنو الحضرمي.