قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة - وولي تلك الحجة المشركون والمحرم - ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة في صفر، على رأس أربعة أشهر من أحد. وكان من حديثهم، كما حدثني أبي إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيره من أهل العلم، قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة، المعنق، ليموت في أربعين رجلا من أصحابه، من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر الصديق، في رجال مسمَّين من خيار المسلمين. فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب. فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم من عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند أخرهم، يرحمهم الله، إلا كعب بن زيد، أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق الموت، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدًا، رحمه الله. وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، أحد بني عمرو بن عوف.
قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح.
قال ابن إسحاق: فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا: فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري: لعمرو بن أمية: ما ترى ؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال، ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر. حتى نزلا معه في ظل هو فيه. وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهم حين نزلا، ممن انتما ؟ فقالا: من بني عامر فأمهلهما، حتى إذا ناما، عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا، فبلغ أبا براء، فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عله وسلم بسببه وجواره، وكان فيمن أصيب عامر أبن فهيرة.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه، أن عامر بن الطفيل، كان يقول: من رجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه قالوا هو عامر بن فهيرة.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض بني جبار بن سلمى بن مالك بن جعفر، قال: وكان جبار فيمن حضرها يومئذ مع عامر، ثم أسلم قال: فكان يقول: إن مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلاً منهم يومئذ بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول: فزت والله. فقلت في نفسي: ما فاز ألست قد قتلت الرجل ؟ قال: حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشهادة، فقلت: فاز لعمر الله.
قال ابن إسحاق: فحمل ربيعة بن عامر بن مالك على عامر بن الطفيل، فطعنه بالرمح فوقع في فخذه، فأشواه ووقع عن فرسه، فقال: هذا عمل أبي براء، إن أمت فدمي لعمي، فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي فيما أُتِىَ إلي.