جهاز رسول الله (ص) ودفنه

قال ابن إسحاق: أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، فحدثني عبدالله بن أبي بكر، وحسين بن عبدالله، وغيرهما من أصحابنا، أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبدالمطلب، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم الذين ولوا غسله، وإن أوس بن خولي أحد بني عوف بن الخزرج قال لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله يا علي، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أوس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل بدر، قال: ادخل فدخل، فجلس وحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد وشقران مولاه، هما اللذان يصبان الماء عليه، وعلي يغسله، قد أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي يقول: بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حياً وميتاً، ولم ير من رسول الله شيء مما يرى من الميت.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة قالت، لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه، كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه؟ قالت: فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو، أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه، قالت: فقاموا إلى رسول الله، فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.

قال ابن إسحاق: فلما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كُفِّن في ثلاثة أثواب، ثوبين صحاريين، وبرد حبرة، أدرج فيها إدراجاً، كما حدثني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، والزهري، عن علي بن الحسين.

قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبدالله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو عبيدة بن الجراح، يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل، هو الذي يحفر لأهل المدينة، يلحد، فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح، وللأخر اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة، فجاء به فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع في سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه، فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض، فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي عليه، فحفر له تحته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالاً، دخل الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء، حتى فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عمارة، عن عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة، عن عائشة رضى الله عنها، قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي، من جوف الليل من ليلة الأربعاء.

قال محمد بن إسحاق: وقد حدثتني فاطمة هذا الحديث.

قال محمد بن إسحاق: وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب: يا علي أنشدك الله، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: انزل، فنزل مع القوم، وقد كان مولاه شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وبنى عليه، قد أخذ قطيفة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويفترشها، فدفنها في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك أبداً، قال: فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفاة النبي (ص)

قال ابن إسحاق: ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون، فبينا الناس على ذلك ابتُدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكواه الذي قبضه الله فيه، إلى ما أراد به من كرامته ورحمته، في ليال بقين من صفر، أو في أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتُدىء به من ذلك، فيما ذكر لي، أنه خرج إلى بقيع الغرقد، من جوف الليل، فاستغفر لهم، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتُدىء بوجعه من يومه ذلك.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن عمرو، عن عبيد الله بن جبير، مولى الحكم بن أبي العاص عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل، فقال: يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم، قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنىء لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، ثم أقبل علي، فقال: يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، قال: فقلت: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، قال: لاوالله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبضه الله فيه.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه، قالت: ثم قال: وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك؟ قالت: قلت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتام به وجعه، وهو يدور على نسائه، حتى استعز به، وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه، فاستأذنهن في أن يمرض في بيتي، فأذِنَّ له.

قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيدالله بن عتبة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى بين رجلين من أهله: أحدهما الفضل بن العباس، ورجل أخر، عاصبا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيتي. قال عبيدالله: فحدثت هذا الحديث عبدالله بن العباس فقال: هل تدري من الرجل الآخر؟ قال: قلت: لا، قال: علي بن أبي طالب. ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد به وجعه، فقال: هريقوا على سبع قرب من أبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، قالت: فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم.

قال ابن إسحاق: وقال الزهري حدثني أيوب بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم، فأكثر الصلاة عليهم، ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا بين ما عنده، فاختار ما عند الله، قال: ففهمها أبو بكر، وعرف أن نفسه يريد، فبكى، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فقال: على رسلك يا أبا بكر، ثم قال: انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد، فسدوها إلا بيت أبي بكر، فأني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه.

قال ابن هشام ‏:‏ويروى إلا باب أبي بكر.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن عبدالله، عن بعض آل أبي سعيد بن المعلى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ في كلامه هذا: فإني لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، وغيره من العلماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد، وهو في وجعه، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، وقد كان الناس قالوا: في إمرة أسامة: أمَّر غلاماً حدثاً على جِلَّة المهاجرين والأنصار، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: أيها الناس أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقاً لها. قال: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكمش الناس في جهازهم، واستعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فخرج أسامة، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف، من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره، وتتام إليه الناس، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام أسامة والناس، لينظروا ما الله قاض في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده.

رواه البخاري.

قال ابن إسحاق: قال الزهري وحدثني عبدالله بن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم صلى واستغفر لأصحاب أحد، وذكر من أمرهم ما ذكر، مع مقالته يومئذ: يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون، وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وأنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، قال عبدالله: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل بيته، وتتام به وجعه حتى غمر، قال عبدالله فاجتمع إليه نساء من نسائه: أم سلمة، وميمونة، ونساء من نساء المسلمين، منهن أسماء بنت عميس، وعنده العباس عمه، فأجمعوا أن يلُدُّوه، وقال العباس ‏:‏لألُدَّنَّه، قال: فلدُّوه، فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من صنع هذا بي؟ قالوا: يا رسول الله، عمك، قال ‏:‏هذا دواء أتى به نساء جئن من نحو هذه الأرض، وأشار نحو أرض الحبشة، قال: ولِم فعلتم ذلك؟ فقال عمه العباس: خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب، فقال: إن ذلك لداء ما كان لله عز وجل ليقذفني به، لا يبق في البيت أحد إلا لُدّ إلا عمي، فلقد لُدَّت ميمونة وإنها لصائمة، لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقوبة لهم بما صنعوا به.

قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن عبيد بن السباق، عن محمد بن أسامة، عن أبيه أسامة بن زيد، قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أُصْمِت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فأعرف أنه يدعو لي.

قال ابن إسحاق: وقال ابن شهاب الزهري حدثني عبيد بن عبدالله بن عتبة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما أسمعه يقول: إن الله لم يقبض نبيا حتى يُخيِّره، قالت: فلما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أخر كلمة سمعتها وهو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة، قالت: فقلت: إذا والله لا يختارنا، وعرفت أنه الذي كان يقول لنا: إن نبياً لم يقبض حتى يُخيَّر، قال الزهري وحدثني حمزة بن عبدالله ابن عمر، أن عائشة قالت: لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: قلت: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت، كثير البكاء إذا قرأ القرآن، قال: مروه فليصل بالناس.قالت: فعدت بمثل قولي، فقال: إنكن صواحب يوسف، فمروه فليصل بالناس، قالت: فوالله ما أقول ذلك إلا أني كنت أحب أن يصرف ذاك عن أبي بكر، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلاً قام مقامه أبداً، وأن الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر.

قال ابن إسحاق: وقال ابن شهاب حدثني عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال: لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين، قال: دعاه بلال إلى الصلاة، فقال: مروا من يصلي بالناس، قال ‏:‏فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: قم يا عمر، فصل بالناس، قال: فقام، فلما كبر، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، قال: فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس، قال: قال عبدالله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ‏!‏ ماذا صنعت بي يا بن زمعة، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس، قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكني حين لم أرى أبا بكر، رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.

قال ابن إسحاق: وقال الزهري حدثني أنس بن مالك: أنه لما كان يوم الإثنين الذي قبض الله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الناس، وهم يصلون الصبح، فرفع الستر، وفتح الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فرحا به، وتفرجّوا، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً لما رأى من هيئتهم في صلاتهم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة، قال: ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفرق من وجعه، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث عن القاسم بن محمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، حين سمع تكبير عمر في الصلاة: أين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، فلولا مقالة قالها عمر عند وفاته، لم يشك المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر، ولكنه قال عند وفاته: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أتركهم فقد تركهم من هو خير مني، فعرف الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحداً، وكان عمر غير متهم على أبي بكر.

قال ابن إسحاق: وحدثني أبو بكر بن عبدالله بن أبي مليكة قال: لما كان يوم الاثنين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه إلى الصبح، وأبو بكر يصلى بالناس، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرج الناس، فعرف أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهره، وقال: صل بالناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فصلى قاعداً عن يمين أبي بكر، فلما فرغ من الصلاة، أقبل على الناس، فكلمهم رافعا صوته، حتى خرج صوته من باب المسجد، يقول: أيها الناس سُعِّرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علي بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن، قال: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، قال له أبو بكر: يا نبي الله، إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة، أفآتيها؟ قال: نعم، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح.

قال ابن إسحاق: قال الزهري وحدثني عبدالله بن كعب بن مالك، عن عبدالله بن عباس، قال ‏:‏خرج يومئذ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً، قال: فأخذ العباس بيده، ثم قال: يا علي، أنت والله عبد العصا بعد ثلاث، أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كنت أعرفه في وجوه بني عبدالمطلب، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه، وإن كان في غيرنا أمرناه، فأوصى بنا الناس، قال: فقال له علي: إني والله لا أفعل، والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أشتد الضحاء من ذلك اليوم.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: قالت: رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد، فاضطجع في حجري، فدخل علي رجل من آل أبي بكر، وفي يده سواك أخضر، قالت: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه في يده نظرا عرفت أنه يريده، قالت: فقلت: يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال: نعم، قالت: فأخذته فمضغته له حتى لينته، ثم أعطيته إياه، قالت: فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط، ثم وضعه، ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص، وهو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة، قالت: فقلت: خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق، قالت: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: سمعت عائشة تقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وفي دولتي، لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء، وأضرب وجهي.

قال ابن إسحاق: قال الزهري وحدثني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، قال: وأقبل أبو بكر، حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً، قال: ثم رد البرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج، وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر، أنصت، فأبي إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبدالله فإن الله حي لا يموت، قال: ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران]. قال ‏:‏ فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم، وقال: فقال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعُقِرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.

بعث الشام

قال ابن إسحاق: ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون.

وعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده.

رواه البخاري.

قلت: وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وجيش أسامة مخيِّمٌ بالجرف، وهو موضع شمال المدينة النبوية.


حجة الوداع

قال ابن إسحاق: فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة، تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز له.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة.

قال ابن هشام ‏:‏فاستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي، ويقال: سباع بن عرفطة الغفاري.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: لا يذكر - أي النبي (ص) - ولا يذكر الناس إلّا الحج، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه الهدي وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلوا بعمرة، إلا من ساق الهدي، قالت: وحضت ذلك اليوم، فدخل علي وأنا أبكي، فقال: مالك يا عائشة؟ لعلك نفست؟ قالت: قلت: نعم، والله لوددت أني أخرج معكم عامي في هذا السفر، فقال: لا تقولي ذلك، فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج، إلا أنك لا تطوفين بالبيت، قالت: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فحلّ كل من كان لا هدي معه، وحل نساؤه بعمرة، فلما كان يوم النحر أتيت بلحم بقر كثير، فطرح في بيتي، فقلت: ما هذا؟ قالوا: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر، حتى إذا كانت ليلة الحصبة، بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخي عبدالرحمن بن أبي بكر، فأعمرني من التنعيم، مكان عمرتي التي فاتتني.

قال ابن إسحاق: وحدثني نافع، مولى عبدالله بن عمر، عن عبدالله ابن عمر، عن حفصة بنت عمر، قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه أن يحللن بعمرة، قلن: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟ فقال: إني أهديت ولبدت، فلا أحل حتى أنحر هديي.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث عليا رضي الله عنه إلى نجران، فلقيه بمكة وقد أحرم، فدخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها، فوجدها قد حلت وتهيأت، فقال: ما لك يا بنت رسول الله، قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحل بعمرة فحللنا، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من الخبر عن سفره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق فطف بالبيت، وحل كما حل أصحابك، قال: يا رسول الله، إني أهللت كما أهللت: فقال: ارجع فاحلل كما حل أصحابك، قال: يا رسول الله، إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فهل معك من هدي؟ قال: لا، فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى فرغا من الحج، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدى عنهما.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي عمرة، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، قال: لما أقبل علي رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف على جنده الذين معه رجل من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي رضى الله عنه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ‏!‏ ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك ‏!‏ انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فانتزع الحلل من الناس، فردها في البز، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن عبدالرحمن بن حزم بن معمر بن حزم عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب، وكانت عند أبي سعيد الخدري، عن أبي سعيد الخدري، قال: اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا، فسمعته يقول: أيها الناس، لا تشكوا علياً، فوالله إنه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله من أن يشكى.

قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجة، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان مسترضعا في بني ليث، فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية، أما بعد: أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطَع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم، أيها الناس، إن النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا يحلونه عاما، ويحرمونه عاما، ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان، أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ‏، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلَّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً، كتاب الله وسنة نبيه، أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لأمرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت، فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، ربيعة بن أمية بن خلف قال: يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هلا تدرون أي شهر هذا؟ فيقول لهم: فيقولون: الشهر الحرام، فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة شهركم هذا، ثم يقول: قل: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أي بلد هذا؟ قال: فيصرخ به، قال: فيقولون: البلد الحرام قال: فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة بلدكم هذا، قال: ثم يقول: قل: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أي يوم هذا؟ قال: فيقوله لهم، فيقولون: يوم الحج الأكبر، فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم، إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا.

قال ابن إسحاق: حدثني ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري عن عمرو بن خارجة قال: بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، فبلَّغته، ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لغامها ليقع على رأسي، فسمعته وهو يقول: أيها الناس، إن الله أدى إلى كل ذي حق حقه، وإنه لا تجوز وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحَجَر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة الناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف بعرفة قال: هذا الموقف - للجبل الذي هو عليه - وكل عرفة موقف. وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة: هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف. ثم لما نحر بالمنحر بمنى، قال: هذا المنحر وكل منى منحر. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج وقد أراهم مناسكهم، وأعلمهم ما فرض الله عليهم من حجهم: من الموقف، ورمى الجمار، وطواف بالبيت، وما أحل لهم من حجهم: وما حرم عليهم، فكانت حجة البلاغ، وحجة الوداع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدها.

بعث النبي (ص) بعض أصحابه إلى النواحي ليفقهوا الناس ويجبوا الزكاة والجزية

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات، إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسي وهو بها، وبعث زياد بن لبيد، أخا بني بياضة الأنصاري، إلى حضرموت وعلى صدقاتها، وبعث عدي بن حاتم على طيئ وصدقاتها وعلى بني أسد، وبعث مالك بن نويرة- قال ابن هشام: اليربوعي- على صدقات بني حنظلة، وفرق صدقة بني سعد  - بن زيدمناة بن تميم - على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها، وقيس بن عاصم على ناحية، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين، وبعث علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى أهل نجران، ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم.

وعن أبى بردة -رضي الله عنه- قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وبعث كل واحد منهما على مخلاف. واليمن مخلافان. ثم قال: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا. وفى رواية: وتطاوعا ولا تختلفا. وانطلق كل واحد منهما إلى عمله. قال: وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريباً من صاحبه أحدث به عهداً فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريباً من صاحبه أبى موسى، فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه، فإذا هو جالس وقد اجتمع الناس إليه، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: يا عبدالله بن قيس أيُّم هذا، أي ما هذا؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه. قال: لا أنزل حتى يقتل. قال: إنما جيء به لذلك فانزل. قال: ما أنزل حتى يقتل فأمر به فقتل. ثم نزل. فقال: يا عبدالله كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوق. قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.

رواه البخاري.

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذ جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.

رواه البخاري ومسلم.

وعن معاذ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بعثه إلى اليمن قال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد وإني لا آلو. قال: فضرب رسول الله صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله. 

وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أنه لما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن خرج معه يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشى تحت راحلته، فلما فرغ قال: يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدى هذا وقبري. فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم التفت بوجهه نحو المدينة فقال: إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا.

رواه أحمد.

وفي رواية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: لا تبكِ يا معاذ، للبكاء أوان، البكاء من الشيطان.

رواه أحمد.

وقال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى، سنة عشر، إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس، أسلموا تسلموا. فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبذلك كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا.

وعن البراء بن عازب قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه، قال: مُر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل، فكنت فيمن عقب معه، قال: فغنمت أواقي ذات عدد.

رواه البخاري.

وعن بريدة بن الحصيب قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليا، فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا بريدة تبغض عليا؟ فقلت نعم! فقال: لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك.

رواه البخاري.

وفي رواية قال: أبغضت عليا بغضا لم أبغضه أحدا قط، قال: وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا، قال: فبُعِث ذلك الرجل على خيل فصحبته، ما أصحبه إلا على بغضه عليا، قال: فأصبنا سبيا، قال: فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابعث إلينا من يخمسه، قال: فبعث إلينا عليا، وفي السبي وصيفة من أفضل السبي، قال: فخمس وقسم، فخرج ورأسه يقطر، فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟ فقال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي، فإني قسمت وخمست فصارت في الخمس، ثم صارت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صارت في آل علي، ووقعت بها، قال: فكتب الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابعثني، فبعثني مصدقا، فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق، قال: فأمسك يدي والكتاب فقال: أتبغض عليا؟ قال: قلت نعم. قال: فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبا، فو الذي نفس محمد بيده، لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة. قال: فما كان من الناس أحد بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي من علي.

رواه أحمد.

قوله: "وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا" يريد خالد بن الوليد رضي الله عنهم جميعا.

وقوله: "فبعثني مصدِّقاً" أي: بعثني لأصدّقه فيما ذكره من خبر عليّ بن أبي طالب مع الوصيفة.

وعن ابن إسحاق قال: فأقبل خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب، منهم قيس بن الحصين ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادي، وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم، قال: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند، قيل: يا رسول الله، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب، فلما وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلموا عليه، وقالوا: نشهد أنك رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا، فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثالثة، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة، فقال يزيد بن عبد المدان: نعم، يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن خالدا لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا، لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم، فقال يزيد ابن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا، قال: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله، قال: صدقتم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: لم نكن نغلب أحدا، قال: بلى، قد كنتم تغلبون من قاتلكم، قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله إنا كنا نجتمع ولا نفترق، ولا نبدأ أحدا بظلم، قال: صدقتم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين. فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال، أو في صدر ذي القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحم وبارك، ورضي وأنعم.

قلت: لما رجع بنو الحارث بن كعب إلى أهليهم، حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ومات بعد حجة الوادع بأشهر.

ذكر الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي

قال ابن إسحاق: وقد كان تكلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذابان، مسيلمة بن حبيب باليمامة في بني حنيفة، والأسود بن كعب العنسي بصنعاء.

قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبدالله بن قسيط، عن عطاء بن يسار، أو أخيه سليمان بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال ‏:‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره، وهو يقول: أيها الناس إني قد رأيت ليلة القدر، ثم أنسيتها، ورأيت في ذراعي سوارين من ذهب، فكرهتهما فنفختهما فطار، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمن، وصاحب اليمامة.

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً، كلهم يدعي النبوة، وقد كان مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون، فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب.

قال ابن إسحاق: فحدثني شيخ من أشجع، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي، عن أبيه نعيم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما حين قرأ كتابه: فما تقولان أنتما، قالا: نقول كما قال: فقال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما، ثم كتب إلى مسيلمة: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من ابتع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وذلك في أخر سنة عشر.

انقياد العرب وإسلامهم

قال ابن إسحاق: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه.

قال ابن هشام ‏:‏حدثني أبو عبيدة: أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى سنة الوفود.

قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة، ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجا يضربون إليه من كل وجه يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر]. أي: فاحمد الله علي ما أظهر من دينك واستغفره إنه كان توابا.

قال ابن إسحاق: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود العرب، فقدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي، في أشراف بني تميم، منهم الأقرع بن حابس التميمي، والزبرقان بن بدر التميمي، أحد بني سعد، وعمرو بن الأهتم، والحبحاب بن يزيد.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر، فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم، فقدم عامر بن الطفيل عدو الله، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم، قال: والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ‏!‏ ثم قال لأربد: إذا قدمنا على الرجل، فإني سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عامر بن الطفيل: يا محمد، خالني، قال: لا والله، حتى تؤمن بالله وحده، قال: يا محمد، خالني، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يحير شيئاً، قال: فلما رأى عامر ما يصنع أربد، قال: يا محمد خالني، قال: لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، فلما أبي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً، فلما ولي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامر بن الطفيل، فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد: ويلك يا أربد ‏!‏ أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً، قال: لا أبا لك ‏!‏ لا تعجل علي، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل، حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف ‏؟‏ وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر، أغدة كغدة البَكر في بيت امرأة من بني سلول ‏!‏

قال ابن هشام ‏:‏ويقال أغدة كغدة الإبل، وموتا في بيت سلولية ‏!‏

قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين واروه، حتى قدموا أرض بني عامر شاتين، فلما قدموا أتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء والله، لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن، فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه، فأرسل الله تعالى عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما. وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه.

قال ابن إسحاق: وبعث بنو سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا منهم يقال له ضمام بن ثعلبة.

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب، مولى عبدالله بن عباس، عن ابن عباس قال: بعثت بنو سعد بن بكر، ضمام بن ثعلبة، وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبدالمطلب قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبدالمطلب، قال: أمحمد؟ قال: نعم، قال: يا ابن عبدالمطلب، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن في نفسك، قال: لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك، قال: أنشدك الله، إلهك وإله من كان قبلك، وإله من كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تصلى هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم، قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره راجعاً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة، قال فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى ‏!‏ قالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً، قال: يقول عبدالله بن عباس: فما سمعنا بوافد قومٍ كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش أخو عبدالقيس.

قال ابن هشام ‏:‏الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبدالقيس وكان نصرانياً.

قال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن الحسن قال: لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فقال: يا محمد إني قد كنت على دين، وإني تارك ديني لدينك، أفتضمن لي ديني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه، قال: فأسلم وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُملان، فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه، قال: يا رسول الله، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟ قال: لا، إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار ‏، فخرج من عنده الجارود راجعاً إلى قومه، وكان حسن الإسلام، صلباً على دينه، حتى هلك وقد أدرك الرِدّة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر، قام الجارود فتكلم، فتشهد شهادة الحق، ودعا إلى الإسلام فقال: أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر من لم يشهد.

قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم فحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل رِدة أهل البحرين، والعلاء عنده أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب، فكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار، ثم من بني النجار، فحدثني بعض علمائنا من المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، معه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يسترونه بالثياب، كلمه وسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا ‏، زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا، وفي ركابنا يحفظها لنا، قال: فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال: أما إنه ليس بشركم مكاناً أي: لحفظه ضيعة أصحابه، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوه بما أعطاه، فلما انتهوا إلى اليمامة، ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم، وقال: إني قد أُشرِكْتٌ في الأمر معه، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكاناً، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أُشرِكت في الأمر معه، ثم جعل يسجع لهم الأساجيع، ويقول لهم: فيما يقول مضاهاة للقرآن: ‏لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى. وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي، فأصفقت معه حنيفة على ذلك، فالله أعلم أي ذلك كان.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ، فيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلموا، فحسن إسلامهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني من لا أتهم من رجال طيئ: ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني، إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه، ثم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد الخير، وقطع له فيدا وأرضين معه، وكتب له بذلك، فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه - قال: قد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى، وغير أم ملدم، فلم يثبته - فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال له فردة أصابته الحمى بها فمات، فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معه من كتبه، التي قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحرقتها بالنار.

قال ابن إسحاق: وأما عدي بن حاتم فكان يقول، فيما بلغني: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرأ شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير في قومي بالمرباع، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكاً في قومي، لما كان يُصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي، راعيا لإبلي: لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللاً سماناً، فاحتبسها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد، قال: فقلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الجوشية، ويقال: الحوشية، وتخالفني خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصيب ابنة حاتم، فيمن أصابت، فقُدِم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيئ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام، قال: فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يحبسن فيها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الولد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك، قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله؟ قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد مر بي، فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي، وقد يئست منه، فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه، قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني، فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن أكلمه، فقيل: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام، قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوِّب إلي تَؤُمُّنا، قال: فقلت ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي انسحلَّت تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك، عورتك ‏!‏ قال: قلت: أي أخيه لا تقولي إلا خيرا، فوالله ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت، قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها: وكان امرأة حازمة، ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن، وأنت أنت، قال: قلت: والله إن هذا الرأي، قال فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك ‏!‏ قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا دخل في بيته، تناول وسادة في أدم محشوة ليفا، فقذفها إلي، فقال: اجلس على هذه، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسيا؟ قال: قلت: بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت: أجل والله، وقال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم، وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله، ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، قال: فأسلمت، وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها، لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وأيم الله لتكون الثالثة، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه.

قال ابن إسحاق: وقدم فروة بن مسيك المرادي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة، ومباعداً لهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا، حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له: يوم الردم، فكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك في ذلك اليوم.

قال ابن هشام: الذي قاد همدان في ذلك اليوم مالك بن حريم الهمداني.

قال ابن إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني -: يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم؟ قال: يا رسول الله، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك ‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيراً، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد، فأسلم، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادي، حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز، يقول إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبياً كما يقول، فإنه لن يخفي عليك، وإذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبي عليه قيس ذلك، وسفَّه رأيه، فركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وصدقه، وآمن به، فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح، أوعد عمراً، وتحطم عليه، وقال: خالفني وترك رأيي، فأقام عمرو بن معديكرب في قومه من بني زبيد، وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو بن معديكرب.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس، في وفد كندة فحدثني الزهري بن شهاب أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانين راكباً من كندة، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، وقد رجلوا جممهم وتكحلوا، وعليهم جبب الحبرة، وقد كففوها بالحرير، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألم تسلموا؟ قالوا: بلى، قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟ قال: فشقوه منها، فألقوه، ثم قال الأشعث بن قيس: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبدالمطلب، وربيعة بن الحارث، وكان العباس وربيعة رجلين تاجرين، وكانا إذا شاعا في بعض العرب، فسئلا ممن هما، قالا نحن بنو آكل المرار، يتعززان بذلك، وذلك أن كندة كانوا ملوكاً، ثم قال لهم: لا بل نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا، فقال الأشعث بن قيس: هل فرغتم يا معشر كندة؟ والله لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين.

قال ابن هشام: الأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قِبَل النساء.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبدالله الأزدي، فأسلم، وحسن إسلامه، في وفد من الأزد، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك، من قبل اليمن، فخرج صرد بن عبدالله يسير بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل بجرش، وهي يومئذ مدينة مغلقة، وبها قبائل من قبائل اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم، فدخلوها معهم حين سمعوا بسير المسلمين إليهم، فحاصروهم فيها قريباً من شهر، وامتنعوا فيها منه ثم رجع عنهم قافلاً، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له كشر، ظن أهل جرش أنه إنما ولي عنهم منهزما، فخرجوا في طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم، فقتلهم قتلاً شديداً، وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران، فبينا هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية بعد صلاة العصر، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأي بلاد الله كشر؟ فقام إليه الجرشيان، فقالا: يا رسول الله، ببلادنا جبلاً يقال له كشر، وكذلك يسميه أهل جرش، فقال: إنه ليس بكشر، ولكنه شكر، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن، قال: فجلس الرجلان إلى أبي بكر، أو إلى عثمان، فقال لهما: ويحكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينعى لكما قومكما، فقوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما، فقاما إليه، فسألاه ذلك، فقال: اللهم ارفع عنهم، فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبدالله، في اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر، وخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، وحمى لهم حول قريتهم، على أعلام معلومة، للفرس والراحلة وللمثيرة، وبقرة الحرث، فمن رعاه من الناس فمالهم سحت.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير، مقدمة من تبوك، ورسولهم إليه بإسلامهم، الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان، قيل ذي رعين ومعافر وهمدان، وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم، ومفارقتهم الشرك وأهله، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله النبي، إلى الحارث بن عبد كلال، وإلى نعيم بن عبد كلال، وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان، أما بعد ذلكم: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به، وخبرنا ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم الرسول وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار، عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر، وأن في الإبل الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع، جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة، وأنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدى ذلك، وأشهد على إسلامه، وظاهر المؤمنين على المشركين، فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وله ذمة الله وذمة رسوله، وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني، فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية، على كل حال ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار واف، من قيمة المعافر، أو عوضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله، أما بعد: فإن رسول الله محمداً النبي، أرسل إلى زرعة ذي يزن، أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً، معاذ بن جبل، وعبدالله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرة، وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي، وأن أميرهم معاذ بن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا، أما بعد: فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم أن مالك بن مرة الرهاوي، قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيراً، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإن رسول الله هو ولي غنيكم وفقيركم، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته، إنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وأن مالكاً قد بلغ الخبر، وحفظ الغيب، وآمركم به خيراً، وإني قد أرسلت إليهم من صالحي أهلي وأولي دينهم وأولي علمهم، وآمرك بهم خيراً، فإنهم منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بعث معاذاً أوصاه، وعهد إليه، ثم قال له: يسر ولا تعسر، وبشر ولا تنفر، وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب، يسألونك ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فخرج معاذ، حتى إذا قدم اليمن قام بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتته امرأة من أهل اليمن، فقالت: يا صاحب رسول الله، ما حق زوج المرأة عليها؟ قال: ويحك ‏!‏ إن المرأة لا تقدر على أن تؤدي حق زوجها، فأجهدي نفسك في أداء حقه ما استطعت، قال: والله لئن كنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لتعلم ما حق الزوج على المرأة، قال: ويحك ‏!‏ لو رجعت إليه فوجدته تنثعب منخراه قيحاً ودماً فمصصت ذلك حتى تذهبيه ما أديت حقه.

قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي، ثم النفاثي، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية، قبل خيبر، رفاعة بن زيد الجذامي، ثم الضبيبي، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً، وأسلم فحسن إسلامه، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى قومه.

قال ابن هشام: وقدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حدثني من أثق به، عن عمرو بن عبدالله بن أذينة العبدي، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: قدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم مالك بن نمط، وأبو ثور، وهو ذو المشعار، ومالك بن أيفع، وضمام بن مالك السلماني، وعميرة بن مالك الخارفي، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات، والعمائم العدنية، برحال الميس على المهرية والأرحبية.

فرض الحج وحج أبي بكر بالناس سنة تسع

قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شهر رمضان وشوالا وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج من سنة تسع، ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر رضى الله عنه ومن معه من المسلمين، ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد، الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يُخَاف أحد في الشهر الحرام، وكان ذلك عهداً عامَّاً بينه وبين الناس من أهل الشرك، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل العرب خصائص، إلى آجال مسماة.

قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه، أنه قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عنِّي إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذِّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته، فخرج علي بن أبي طالب رضوان الله عليه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، حتى أدرك أبا بكر بالطريق، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أأمير أم مأمور؟ فقال بل: مأمور ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج، التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، وأجَّل الناس أربعة أشهر من يوم أذَّن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان.

قدوم وفد ثقيف وإسلامهم وهدم اللات

قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك، في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف، وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم، اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفي، حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يتحدث قومه: إنهم قاتلوك، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم.

قال ابن إسحاق: وكان فيهم كذلك محبباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه، لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على عِلّيَّة له، وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله، فتزعم بنو مالك أنه قتله رجل منهم، يقال له أوس بن عوف أخو بني سالم بن مالك، وتزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم، من بني عَتَّاب بن مالك، يقال له، وهب بن جابر، فقيل لعروة: ما ترى في دمك قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلّا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: إن مثله في قومه لكمثل صاحب ياسين في قومه، ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً، ثم إنهم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا.

قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أن عمرو بن أمية، أخا بني علاج، كان مهاجراً لعبدياليل بن عمرو، الذي بينهما شيء، وكان عمرو بن أمية من أدهى العرب، فمشى إلى عبدياليل بن عمرو، حتى دخل داره، ثم أرسل إليه أن عمرو بن أمية يقول لك: أخرج إلي، قال: فقال عبدياليل للرسول: ويلك أعمرو أرسلك إلي؟ قال: نعم، وها هو ذا واقفا في دارك، فقال إن هذا الشيء ما كنت أظنه، لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك، فخرج إليه فلما رآه رحب به، فقال له عمرو: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، قد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا في أمركم، فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض: أفلا ترون أنه لا يأمن لكم سِرْب، ولا يخرج منكم أحد إلا اُقْتُطِع، فأتمروا بينهم، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، كما أرسلوا عروة، فكلموا عبدياليل بن عمرو بن عمير، وكان سِن عروة بن مسعود، وعرضوا ذلك عليه فأبى أن يفعل، وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة، فقال: لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك، فيكونوا ستة، فبعثوا مع عبد ياليل، الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب، ومن بني مالك عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبددهمان، أخا بني يسار، وأوس بن عوف، أخا بني سالم بن عوف، ونمير بن خرشة بن ربيعة، أخا بني الحارث، فخرج بهم عبد ياليل، وهو ناب القوم وصاحب أمرهم، ولم يخرج بهم إلا خشية من مثل ما صنع بعروة بن مسعود، لكي يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة، ألفوا بها المغيرة بن شعبة، يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت رعيتها نوبا على أصحابه صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيين، وضبر يشتد، ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره عن ركب ثقيف أن قد قدموا يريدون البيعة والإسلام، بأن يشرط لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شروطاً، ويكتتبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً في قومهم وبلادهم وأموالهم، فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بالله، لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية، ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده، كما يزعمون فكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعاماً، يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد، حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم، وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم حتى سألوا شهرا واحدا بعد مقدمهم، فأبي عليهم أن يدعها شيئا مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يُظهِرون أن يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة فيهدماها، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما كسر أوثانكم بأيديكم، فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه، فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها وإن كانت دناءة، فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابهم، أمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنا، وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام، وتعلم القرآن.

قال ابن إسحاق: وحدثني عيسى بن عبدالله بن عطية بن سفيان بن ربيعة الثقفي عن بعض وفدهم قال: كان بلال يأتينا حين أسلمنا وصمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من رمضان بفطرنا، وسحورنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتينا بالسحور، وإنا لنقول: إن لنرى الفجر قد طلع، فيقول: قد تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسحر، لتأخير السحور: يأتينا بفطرنا، وإنا لنقول: ما نرى الشمس كلها ذهبت بعد: فيقول: ما جئتكم حتى أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يضع يده في الجفنة، فيلتقم منها.

قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي هند عن مطرف بن عبدالله بن الشْخِّيْر، عن عثمان بن أبي العاص، قال: كان من أخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني على ثقيف أن قال: يا عثمان تجاوز في الصلاة، واقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير، والصغير، والضعيف، وذا الحاجة.

قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة، في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يُقَدِّم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه دونه بنو معتب خشية أن يُرمى أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حُسَّرا يبكين عليها.

قال ابن إسحاق: يقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واها لك ‏!‏ آها لك ‏!‏ فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، وما لها من الذهب والجزع، وكان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف، حين قتل عروة، يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شيء أبداً، فأسلما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: وخالكما أبا سفيان بن حرب، فقالا ‏:‏ وخالنا أبا سفيان بن حرب، فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو مليح بن عروة أن يقضي عن أبيه عروة ديناً كان عليه من مال الطاغية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال له، قارب بن الأسود، وعن الأسود يا رسول الله فاقضه، وعروة والأسود أخوان لأب وأم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأسود مات مشركا، فقال قارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لكن تصل مسلما ذا قرابة، يعني نفسه، إنما الدين علي، وإنما أنا الذي أطلب به، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية، فلما جمع المغيرة مالها قال لأبي سفيان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقضي عن عروة والأسود دينهما، فقضى عنهما، وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبي رسول الله، إلى المؤمنين: إن عضاة وج وصيده حرام، لا يعضد شجرة، ومن وجد يفعل شيئاً من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به إلى النبي محمد، وإن هذا أمر النبي محمد رسول الله، وكتب خالد بن سعد بأمر الرسول محمد بن عبدالله، فلا يتعده أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أمر الثلاثة الذين خلفوا وأمر المعذرين في غزوة تبوك

قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين، وتخلف أولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فقال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعذرهم الله ولا رسوله، واعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة.

قال ابن إسحاق: فذكر الزهري محمد بن مسلم بن شهاب، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك: أن أباه عبدالله وكان قائد أبيه حين أصيب بصره، قال: سمعت أبي كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وحديث صاحبيه قال: ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، غير أني كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر، وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحدا تخلف عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عِيَر قريش، حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وحين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها، قال: كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، ووالله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل غزوةَ عدوٍّ كثير، فجلى للناس أمرهم، ليتأهبوا لذلك أهبته، وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد، والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ، يعني بذلك الديوان، يقول: لا يجمعهم ديوان مكتوب، قال كعب‏:‏ فقَلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ذلك، ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار، وأحبت الظلال، فالناس إليها صعر، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجهز المسلمون معه، وجعلت أغدو لأتجهز معهم، فأرجع ولم أقض حاجة، فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمَّر الناس بالجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا، والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفرط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم أفعل، وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، فيحزنني أني لا أرى إلّا رجلاً مغموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه، والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت ‏!‏ والله يا رسول الله، ما علمنا منه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك، حضرن بثِّي، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً، وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وإيمانهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت فسلمت عليه، فتبسّم تبسّم المغضب، ثم قال لي: تعاله، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك، ألم تكن ابتعت ظهرك، قال: قلت: إني يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، لكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذباً لترضين عني، وليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديثاً صدقاً تجد علي فيه، إني لأرجو عقباي من الله فيه، ولا والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت، وثار معي رجال من بني سلمة، فاتبعوني، فقالوا لي ‏: ‏والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا أحد غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أبي أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين، فيهما أسوة فصَمَتُ حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة، من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي والأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين، وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُسَلِّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة: أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فناشدته، فسكت عني، فعدت فناشدته، فسكت عني، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي ووثبت فتسورت الحائط، ثم غدوت إلى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فجعل الناس يشيرون له إلي، حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكتب كتاباً في سرقة من حرير فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، قال: قلت حين قرأتها، وهذا من البلاء أيضا، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك، قال: فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها، فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: قلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحِبَيَّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض، قال: وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع، لا خادم له، أفتكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك، قالت: والله يا رسول الله، ما به من حركة إلي، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، ولقد تخوفت على بصره، قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، قال: فقلت: والله لا أستأذنه فيها، ما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي في ذلك إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة، من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح، صبح خمسين ليلة، وعلى ظهر بيت من بيوتنا، على الحال التي ذكر الله منا، قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وضاقت علي نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع، فكنت أكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أوفى على ظهر سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج، قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب نحو صاحِبَيَّ مبشرون، وركض رجل إلي فرساً، وسعى ساع من أسلم، حتى أوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبي فكسوتهما إياه، بشارة، والله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله، فحياني وهنأني، ووالله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب بن مالك لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لي ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك منه، قال: فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله، إن من توبتي إلى الله عز وجل، أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك، قال: قلت: إني ممسك سهمي الذي بخيبر، وقلت يا رسول الله، إن الله قد نجاني بالصدق، وإن من توبتي إلى الله، أن لا أحدث إلا صدقاً ما حييت، والله ما أعلم أحدا من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أفضل مما أبلاني الله، والله ما تعمدت من كذبة منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. وأنزل الله تعالى: {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ..} إلى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة]. قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تبارك وتعالى قال في الذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد: قال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ۖ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} [التوبة]. قال: وكان خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين حلفوا له ليعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا، حتى قضى الله فيه ما قضى فبذلك قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وليس الذي ذكر الله من تخليفنا لتخلفنا عن الغزوة، ولكن لتخليفه إيانا، وإرجائه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.

أمر مسجد الضِرار

قال ابن إسحاق: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدا لذي العِلَّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا، فتصلي لنا فيه، فقال إني على جناح سفر، وحال شُغُل، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه، فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ابن الدخشم، أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي، أخا بني العجلان، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فأهدماه وحرِّقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل ‏: {‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ .. (107)} [التوبة]. إلى آخر القصة، وكان الذين بنوه أثنى عشر رجلا: خزام بن خالد، من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر، من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف، أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع بن جارية، وزيد بن جارية، ونبتل بن الحارث، من بني ضبيعة، وبحزج، من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان، من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت، وهو من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبدالمنذر.

غزوة تبوك

قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وقد ذكر لنا الزهري ويزيد بن رومان وعبدالله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم من علمائنا، كُلٌّ حَدَّث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يُحدِّث ما لا يُحَدِّث بعض، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان من عسرة الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيَّنها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة: يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك، ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية‏: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}[التوبة]. أي: إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه، يقول تعالى: وإن جهنم لمن ورائه. وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكَّا في الحق، وإرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)} [التوبة]. 

قال ابن هشام ‏: ‏وحدثني الثقة عمن حدثه عن محمد بن طلحة بن عبدالرحمن، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبدالله بن حارثة عن، أبيه، عن جده، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، وكان بيته عند جاسوم، يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خلفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فافلتوا.

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها.

قال ابن هشام ‏:‏حدثني من أثق به: أن عثمان بن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض.

قال ابن إسحاق: ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار، وغيرهم من بني عمرو بن عوف، سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بن حارثة، وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب، وأخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن حمام بن الجموح، أخو بني سلمة، عبدالله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقول: بل هو عبدالله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.

قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمر بن كعب النضري، لقي أبا ليلى عبدالرحمن بن كعب وعبدالله بن مغفل وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه، وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: وجاءه المعذرون من الأعراب، فاعتذروا إليه فلم يعذرهم الله تعالى، وقد ذكر لي أنهم نفر من بني غفار، ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخلفوا عنه عن غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك بن أبي كعب، أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بني واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق، لا يتهمون في إسلامهم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع.

قال ابن هشام ‏:‏واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وذكر عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة، مخرجه إلى تبوك، سباع بن عرفطة.

قال ابن إسحاق: وضرب عبدالله بن أبي، معه على حِدة عسكره، أسفل منه نحو ذباب، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبدالله بن أبي، فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وخلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، إلى أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له، وتخففا منه، فلما قال ذلك المنافقون: أخذ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه سلاحه، ثم خرج حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني أنك استثقلتني، وتخففت مني، فقال: كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع علي إلى المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي هذه المقالة.

قال ابن إسحاق: ثم رجع المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره، ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم، ما هذا بالنصف، ثم قال والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زادا، ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أدركه حين نزل بتبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنباً، فلا عليك أن تخلف عني حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى لك يا أبا خيثمة، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير.

قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحِجر نزلها، واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيئ. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر الذي وقع بجبلي طيئ، فإن طيئا أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، والحديث عن الرجلين عن عبدالله بن أبي بكر، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، وقد حدثني عبدالله بن أبي بكر أن قد سمى له العباس الرجلين، ولكنه استودعه إياهما، فأبى عبدالله أن يسميهما لي.

قال ابن هشام ‏:‏بلغني عن الزهري أنه قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه، واستحث راحلته، ثم قال: لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون، خوفاً أن يصيبكم مثل ما أصابهم.

قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سبحانه سحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رجال من بني عبدالأشهل، قال: قلت لمحمود: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم، والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته، ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك، ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه، كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سار، فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا، فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، قالوا: أقبلنا عليه نقول: ويحك، هل بعد هذا شيء ‏!‏ قال: سحابة مارة.

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلَّت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، يقال له عمارة بن حزم، وكان عقبياً بدرياً، وهو عم بني عمرو بن حزم وكان في رحله زيد بن اللصيت القينقاعي، وكان منافقا.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رجال من بني عبدالأشهل قالوا: فقال زيد بن اللصيت، وهو في رحل عمارة، وعمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده: إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في الوادي، في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله، فقال: والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا، عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا، للذي قال زيد بن اللصيت، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ويقول: إلي عباد الله، إن في رحلي لداهية وما أشعر، أخرج أي عدو الله من رحلي، فلا تصحبني.

قال ابن إسحاق: فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك، وقال بعض الناس لم يزل متهما بشر حتى هلك، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه، حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه، وتلوَّم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال‏:‏ يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.

قال ابن إسحاق: فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبدالله بن مسعود، قال: لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة، وأصابه بها قدره، لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن اغسلاني وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا ذلك به ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبدالله بن مسعود في رهط من أهل العراق عُمَّار فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه، قال: فاستهل عبدالله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، ثم نزل هو أصحابه فواروه، ثم حدثهم عبدالله بن مسعود حديثه، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك.

قال ابن إسحاق: قد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع، حليف لبني سلمة، يقال له: مخشن بن حمير، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ‏!‏ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين، فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنّا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا، فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته، فجعل يقول وهو أخذ بحقبها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله عز وجل: ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)} [التوبة]. وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي، وكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشن بن حمير، فتسمى عبدالرحمن، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر، ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة، صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كتابا فهو عندهم، فكتب ليحنة بن رؤبة: بسم الله الرحمن الرحيم: هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله، ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله، وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه، من بر أو بحر، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة، وهو: أكيدر بن عبدالملك رجل من كندة كان ملكا عليها، وكان نصرانيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر. فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له، ومعه امرأته، فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله ‏!‏ قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ يقال له حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم، فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذته، وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد، فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه به عليه.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يلمسونه، بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا، ثم إن خالداً قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خَلَّى سبيله فرجع إلى قريته، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة، لم يجاوزها، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل، ما يروي الراكب والركبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشقق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الوادي فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه، قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقف عليه فلم ير فيه شيئا، فقال: من سبقنا إلى هذا الماء، فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان، فقال: ألم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه ‏!‏ ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به، ومسحه بيده، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما إن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو من بقي منكم، لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه.

قال: وحدثني محمد بن إبراهيم ابن الحارث التيمي، أن عبدالله بن مسعود كان يحدث، قال: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، قال: فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدنيانه إليه، وهو يقول: أدنيا إلي أخاكما، فدلياه إليه فلما هيأه لشقه قال: اللهم إني أمسيت راضيا عنه فارض عنه، قال: يقول عبدالله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.

قال ابن هشام ‏: ‏وإنما سمي ذا البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام، فيمنعه قومه من ذلك، ويضيقون عليه، حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ الجافي، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنين فاتزر بواحد، واشتمل بالآخر، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ذو البجادين لذلك، والبجاد أيضا: المسح.

قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري، عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم الغفاري، أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بايعوا تحت الشجرة، يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله علينا النعاس، فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفزعني دنوها منه، مخافة أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أحوز راحلتي عنه، حتى غلبتني عيني في بعض الطريق ونحن في بعض الليل فزاحمت راحلتي راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجله في الغرز، فما استيقظت إلا بقوله: حس، فقلت: يا رسول الله استغفر لي، فقال: سر، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألني عمن تخلف من بني غفار، فأخبره به، فقال وهو يسألني: ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط، فحدثته بتخلفهم، قال: فما فعل النفر السود الجعاد القصار؟ قال: قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا، قال: بلى الذين لهم نِعَمٌ بشبكة شدخ، فتذكرتهم في بني غفار ولم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا، فقلت: يا رسول الله، أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منع أحد أولئك حين تخلَّف أن يحمل علي بعير من إبله امرأً نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم.