قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبدالله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن ابن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقته من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام، ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنْفِلُكُموها. فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس. حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
قال ابن إسحاق: فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبدالمطلب، قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال، رؤيا أفزعتها. فبعثت إلى أخيها العباس بن عبدالمطلب فقالت له: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك به، فقال لها: وما رأيت ؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا لَغُدُر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مَثَل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يالغدر لمصارعكم في ثلاث: ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها. ثم أخذ صخرة فأرسلها. فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت، فما بقي بيت من بيوت مكة، ولا دار إلا دخلتها منها فلقة، قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العباس، فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقا، فذكرها له، واستكتمه إياها. فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث بمكة، حتى تحدثت به قريش في أنديتها. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبدالمطلب، متى حدثت فيكم هذه النبيَّة ؟ قال: قلت: وما ذاك ؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة، قال: فقلت: وما رأت ؟ قال: يا بني عبدالمطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفُروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتبْ عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئا. قال: ثم تفرقنا. فلما أمسيت، لم تبق امرأة من بني عبدالمطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غِيَرٌ لشيء مما سمعت، قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان مني إليه من كبير. وأيم الله لأتعرضن له، فإن عاد لأكفينَّكُنَّه. قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أُرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه. قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه، ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلا خفيفا، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر. قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال: فقلت في نفسي: ما له لعنه الله، أكلُّ هذا فَرَق مني أن أشاتمه ! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع: صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره، قد جدع بعيره، وحوّل رحله، وشق قيمصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمةَ اللطيمةَ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوثَ الغوثَ. قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر.
قال ابن إسحاق: فتجهز الناس سراعا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا. وأوعبت قريش، فلم يتخلف من أشرافها أحد. إلا أن أبا لهب بن عبدالمطلب تخلف، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجُزئ عنه بعثه، فخرج عنه، وتخلف أبو لهب.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح: أن أمية بن خلف كان أجمع القعود، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به، قال: ثم تجهز فخرج مع الناس.
قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر - كما حدثني بعض بني عامر بن لؤي، عن محمد بن سعيد بن المسيَّب - في ابنٍ لحفص بن الأخيف، أحد بني مَعيص بن عامر بن لؤي، خرج يبتغي ضالة له بضجنان، وهو غلام حدث في رأسه ذؤابة، وعليه حلة له، وكان غلاما وضيئا نظيفا، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح، أحد بني يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو بضجنان، وهو سيد بني بكر يومئذ، فرآه فأعجبه، فقال: من أنت يا غلام ؟ قال: أنا ابنٌ لحفص بن الأخيف القرشي. فلما ولىَّ الغلام، قال عامر بن زيد: يا بني بكر، ما لكم في قريش من دم ؟ قالوا: بلى والله، إن لنا فيهم لدماء، قال: ما كان رجل ليقتل هذا الغلام برَجُله إلا كان قد استوفى دمه. قال: فتبعه رجل من بني بكر، فقتله بدم كان له في قريش، فتكلمت فيه قريش، فقال عامر بن يزيد: يا معشر قريش، قد كانت لنا فيكم دماء، فما شئتم. إن شئتم فأدوا علينا ما لنا قبلكم، ونؤدي ما لكم قبلنا، وإن شئتم فإنما هي الدماء: رجل برجل، فتجافوا عما لكم قِبَلَنا، ونتجافى عما لنا قبلكم، فهان ذلك الغلام على هذا الحي من قريش، وقالوا: صدق، رجل برجل. فلهوا عنه، فلم يطلبوا به. قال: فبينما أخوه مكرز بن حفص بن الأخيف يسير بِمرِّ الظهران، إذ نظر إلى عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح على جمل له، فلما رآه أقبل إليه حتى أناخ به، وعامر متوشح سيفه، فعلاه مكرز بسيفه حتى قتله، ثم خاض بطنه بسيفه، ثم أتى به مكة، فعلَّقه من الليل بأستار الكعبة. فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقا بأستار الكعبة، فعرفوه، فقالوا: إن هذا لسيف عامر بن يزيد، عدا عليه مكرز بن حفص فقتله، فكان ذلك من أمرهم. فبينما هم في ذلك من حربهم، حجز الإسلام بين الناس، فتشاغلوا به، حتى أجمعت قريش المسير إلى بدر، فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر، فكاد ذلك يثنيهم، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه، فخرجوا سراعا.
قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه - قال ابن هشام: خرج يوم الأثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان - واستعمل عمرو بن أم مكتوم - ويقال: اسمه: عبدالله بن أم مكتوم - أخا بني عامر بن لؤي، على الصلاة بالناس، ثم رد أبا لبابة من الروحاء، واستعمله على المدينة. ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار. وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان، إحداهما مع علي بن أبي طالب، يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعص الأنصار.
قال ابن هشام: كانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.
قال ابن إسحاق: وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا، فاعتقبوها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا، وكان حمزة بن عبدالمطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة، موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا، وكان أبو بكر، وعمر، وعبدالرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا. وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار.
قال ابن إسحاق: فسلك طريقه من المدينة إلى مكة، على نَقْب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحُليفة، ثم على أولات الجيش. ثم مر على تُرْبان، ثم على ملل، ثم غَميس الحمام من مريين، ثم على صخيرات اليمام، ثم على السيَّالة، ثم على فج الروحاء، ثم على شنوكة، وهي الطريق المعتدلة، حتى إذا كان بعرق الظبية - قال ابن هشام: الظبية: عن غير ابن إسحاق - لقوا رجلا من الأعراب، فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أوفيكم رسول الله ؟ قالوا: نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه. قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك. نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه، أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلمة. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سجسج، وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها، حتى إذا كان بالمنصرف، ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية، يريد بدرا، فسلك في ناحية منها، حتى جزع واديا، يقال له: رُحْقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم على المضيق، ثم اِنصبَّ منه، حتى إذا كان قريبا من الصفراء، بعث بسبس بن الجهني، حليف بني ساعدة، وعدي بن أبي الزغباء الجهني، حليف بني النجار، إلى بدر يتحسسان له الأخبار، عن أبي سفيان بن حرب وغيره. ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمها. فلما استقبل الصفراء، وهي قرية بين جبلين، سأل عن جبليهما ما اسماهما ؟ فقالوا: يقال لأحدهما، هذا مسلح، وللآخر: هذا مخرىء، وسأل عن أهلهما، فقيل: بنو النار وبنو حراق، بطنان من بني غفار، فكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما. فتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له: ذَفِران، فجزع فيه، ثم نزل.
قلت: ادعاء الرواة أن النبي صلى الله عليه وسلم تشاءم بأسماء مسلح ومخرئ وبنو النار وبنو حرّاق وذفران، كذب صريح، وهذا تشاؤم وليس تفاؤل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشاؤم، وإنما ظنّ الراوي أن النبي تشاءم بأسمائها عندما عدل عنها، وليس الأمر كما ظن.
قال ابن إسحاق: وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له به. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران، فسلك على ثنايا. يقال لها: الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: الدَّبَّة، وترك الحنَّان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبا من بدر، فركب هو ورجل من أصحابه.
قال ابن هشام: الرجل هو أبو بكر الصديق.
قال ابن إسحاق: كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان: حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أذاك بذاك ؟ قال: نعم، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش. فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماء! أمن ماء العراق ؟
قال ابن هشام: يقال: ذلك الشيخ: سفيان الضمري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه، إلى ماء بدر، يلتمسون الخبر له عليه - كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير - فأصابوا رَوَّايَةً لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما. فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه، ثم سلم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش ؟ قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب: العقنقل - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم ؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم ؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم ؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسع مئة والألف. ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، و زمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء، قد مضيا حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنَّا لهما يستقيان فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء. فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر، وهما يتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك. قال مجدي: صدقتِ، ثم خلَّص بينهما. وسمع ذلك عدي وبسبس، فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه بما سمعا. و أقبل أبو سفيان بن حرب، حتى تقدم العير حذرا، حتى ورد الماء، فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحدا ؟ فقال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مُناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتَّه، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع إلى أصحابه سريعا، فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع. قال: وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة، رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبدالمطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إني رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان. إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر، من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لَبَّة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه. قال: فبلغت أبا جهل، فقال: وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا. ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عِيَرِه، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا، فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونُسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا. وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان حليفا لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة، قد نجَّى الله لكم أموالكم، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا لي جُبْنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا، يعني أبا جهل. فرجعوا، فلم يشهدها زُهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا. ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس، إلا بني عدي بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد، ومشى القوم. وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، أن هواكم لمع محمد. فرجع طالب إلى مكة مع من رجع. ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي، وهو يَلْيَل، بين بدر و بين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريش، والقُلُب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة. وبعث الله السماء، وكان الوادي دهسا، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبَّد لهم الأرض، ولم يمنعهم عن السير، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
قال ابن إسحاق: فحُدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا: أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، و بنى حوضا على القَليب الذي نزل عليه، فمُلىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث: أن سعد بن معاذ قال: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير. ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه.
قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصَوَّب من العقنقل - و هو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي - قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر - إن يكن في أحد القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا. وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري، بعث إلى قريش، حين مروا به، ابنا له بجزائره أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. قال: فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك رحم، قد قضيت الذي عليك، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة. فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد في يمينه، قال: لا والذي نجاني من يوم بدر.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: احزروا لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاث مائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ قال: فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئا، ولكن قد رأيت، يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم، حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ؟ فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟ قال: وما ذاك يا حكيم ؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي، فعلي عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية. فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره، يعني أبا جهل بن هشام.
قال ابن هشام: والحنظلية أم أبي جهل، وهي أسماء بنت مخُرِّبة، أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
قال ابن إسحاق: ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله، أو رجلا من عشيرته، فارجعوا و خلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون. قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها، فهو يهنئها. - قال ابن هشام: يهيئها - فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه، فقد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك، ومقتل أخيك. فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعمراه، واعمراه، فحميت الحرب، وحَقِب الناس، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: "انتفخ والله سحره". قال: سيعلم مُصَفِّر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو ؟ ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
قال ابن إسحاق: وقد خرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد - زعم - أن يبر يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض. قال ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم: عوف، ومعوذ، ابنا الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر، يقال: هو عبدالله بن رواحة، فقالوا: من أنتم ؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم ؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم، أكفاء كرام. فبارز عبيدة، وكان أسن القوم، عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة، شيبة بن ربيعة، وبارز علي، الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار، حين انتسبوا: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا.
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، معه أبو بكر الصديق. فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان. كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين.
قال ابن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بن عدي بن النجار - قال ابن هشام: يقال: سوَّاد، مثقلة، وسواد في الأنصار غير هذا، مخفف - وهو مستنتل من الصف - قال ابن هشام: ويقال: مستنصل من الصف - فطعن في بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فأقدني. فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد، قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقاله له.
قال ابن إسحاق: ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش فدخله، ومعه فيه أبو بكر الصديق، ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا نبي الله: بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله. هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده، على ثناياه النقع.
قال ابن إسحاق: وقد رُمِي مهجع، مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين، ثم رُمِي حارثة بن سراقة، أحد بني عدي بن النجار، وهو يشرب من الحوض، بسهم فأصاب نحره، فقتل. قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرّضهم، وقال: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحُمام أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن عوف ابن الحارث، وهو ابن عفراء قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده ؟ قال: غمسه يده في العدو حاسرا. فنـزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبدالله بن ثعلبة بن صُعَير العذري، حليف بني زهرة، أنه حدثه: لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل بن هشام: اللهم أقْطَعَنَا للرحم، وأتانا بما لا يُعرف، فأحنه الغداة. فكان هو المستفتح.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشا بها، ثم قال: شاهت الوجوه، ثم نضحهم بها، وأمر أصحابه، فقال: شدوا، فكانت الهزيمة، فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشح السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كَرَّة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك احب إلي من استبقاء الرجال.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبدالله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أُخرِجوا كرها، ولا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البَخْتَري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرها. قال: فقال أبوحذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا. ونترك العباس، والله لئن لقيته لأُلْحِمنَّه السيف - قال ابن هشام: ويقال لأُلْجِمَنه السيف - قال: فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص - قال عمر: والله إنه لأول يوم كنَّاني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص - أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ؟ فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا، إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا.
قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب، فلقيه المجذر بن زياد البلوي، حليف الأنصار، ثم من بني سالم بن عوف، فقال المجذر لأبي البختري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك - ومع أبي البختري زميل له، قد خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مُلَيحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة رجل من بني ليث. واسم أبي البختري: العاص - قال: وزميلي ؟ فقال له المجذر: لا والله، ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك، فقال: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعا، لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة. ثم إن المجذر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلته فقتلته.
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، قال ابن إسحاق: وحدثنيه أيضاً عبدالله بن أبي بكر وغيرهما، عن عبدالرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة، وكان اسمي عبدعمرو، فتسميت حين أسلمت عبدالرحمن ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبدعمرو أرغبت عن اسم سماكه أبواك ؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف، قال: فكان إذا دعاني: يا عبدعمرو لم أجبه، قال: فقلت له: يا أبا علي، اجعل ما شئت، قال: فأنت عبدالإله، قال: فقلت: نعم، قال: فكنت إذا مررت به، قال: يا عبدالإله فأجيبه، فأتحدث معه. حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه علي بن أمية، آخذ بيده، ومعي أدراع قد استلبتها فأنا أحملها. فلما رآني قال لي: يا عبدعمرو فلم أجبه، فقال: يا عبدالإله، فقلت نعم، هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك. قال قلت: نعم. ها الله ذا ! قال فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن ؟ قال ثم خرجت أمشي بهما.
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالواحد بن أبي عون، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه عبدالرحمن بن عوف، قال: قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه، آخذ بأيديهما: يا عبدالإله، من الرجل منكم المُعْلم بريشة نعامة في صدره ؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبدالمطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبدالرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارقَ دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد - قال: فلما رآه، قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: قلت: أي بلال، أبأسيري، قال: لا نجوت إن نجا. قال: قلت: أتسمع يا ابن السوداء، قال: لا نجوت إن نجا. قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المُسكة وأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط. قال: فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء بك فوالله ما أغني عنك شيئا، قال: فهبروهما بأسيافهم، حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبدالرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله ابن أبي بكر أنه حُدِّث عن ابن عباس قال: حدثني رجل من بني غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب، قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرا، قال، بعد أن ذهب بصره: لو كنت اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك فيه ولا أتمارى.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني مازن بن النجار، عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرا، قال: إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مِقسم، مولى عبدالله بن الحارث، عن عبدالله بن عباس، قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها على ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أن علي بن أبي طالب قال: العمائم: تيجان العرب، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا وقد أرخوها على ظهورهم، إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم، عن ابن عباس، قال: ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون.
قال ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: أحد أحد.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، أمر بأبي جهل أن يُلتمس في القتلى. وكان أول من لقي أبا جهل، كما حدثني ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، وعبدالله بن أبي بكر أيضاً قد حدثني ذلك، قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح، أخو بني سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة - قال ابن هشام: الحرجة: الشجر الملتف - وهم يقولون: أبو الحكم لا يخُلص إليه. قال: فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنَّت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يُضرب بها. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها. ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان. ثم مَرّ بأبي جهل وهو عقير، معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه و به رمق. وقاتل معوذ حتى قتل، فمر عبدالله بن مسعود بأبي جهل، حين أمر رسول الله صلى الله عليه سلم أن يُلتمس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - انظروا، إن خفي عليكم في القتلى، إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبدالله بن جدعان، ونحن غلامان، وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه، فجحش في إحداهما جحشا لم يزل أثره به. قال عبدالله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه، قال: وقد كان ضبث بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال: وبماذا أخزاني، أعمد من رجل قتلتموه، أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال: قلت: لله ولرسوله.
قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بني مخزوم، أن ابن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رُوَيْعِيَّ الغنم، قال: ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آللهِ الذي لا إله غيره - قال: وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: فقلت: نعم، والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي: أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص، ومر به: إني أراك كأن في نفسك شيئا، أراك تظن أني قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به، وهو يبحث بحث الثور برَوْقه فحُدْتُ عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله.
قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي، حليف بني عبد شمس بن عبد مناف، يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب، فقال: قاتل بهذا يا عُكَّاشة، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى: العون. ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل في الردة، وهو عنده، قتله طليحة بن خويلد الأسدي.
قال ابن إسحاق: وعكاشة بن محصن الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، قال: يارسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: إنك منهم، أو اللهم اجعله منهم، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة وبردت الدعوة.
قلت: ليس الحديث كما رواه ابن إسحاق، وإنما وهم فيه الراوي، وإن كان المعنى صحيحاً، والحديث الصحيح، ما رواه البخاري ومسلم، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، قال: فقام رجل، فقال: يا نبي الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكاشة.
وقال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا عن أهله: منا خير فارس في العرب، قالوا: ومن هو يا رسول الله ؟ قال: عكاشة بن محصن، فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذلك رجل منا يا رسول الله، قال: ليس منكم و لكنه منّا للحلف.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير عن عائشة، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب، طُرِحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا ليحركوه، فتزابل لحمه، فأقروه، وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة. فلما ألقاهم في القليب، وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا. قالت: فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتى ؟ فقال لهم: لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقا. قالت عائشة: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد علموا.
قال ابن إسحاق: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل وهو يقول: يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، فعدد من كان منهم في القليب: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادي قوما قد جيَّفوا ؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم هذه المقالة: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، ثم قال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ للمقالة التي قال.
قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة، فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - في وجه أبي حذيفة بن عتبة، فإذا هو كئيب قد تغير لونه، فقال: يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء ؟ أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فقال: لا، والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر، بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا.
قال ابن إسحاق: وكان الفتية الذين قتلوا ببدر، فنزل فيهم من القرآن، فيما ذكر لنا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} [النساء]. فتية مُسمَّين. من بني أسد بن عبدالعزى بن قصي: الحارث بن زمعة بن الأسود بن عبدالمطلب بن أسد. ومن بني مخزوم: أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم. ومن بني جمح: علي بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح. ومن بني سهم: العاص بن منبه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم. وذلك أنهم كانوا أسلموا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعا.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر، مما جمع الناس، فجمع، فاختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم، وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدو: والله ما أنتم بأحق به منا، والله لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله تعالى أكتافه، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرَّة العدو، فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منا.
قال ابن اسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء. يقول: على السواء.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، قال: حدثني بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد الساعدي مالك بن ربيعة، قال: أصبت سيف بني عائذ المخزوميين الذين يُسمَّى المرزبان يوم بدر، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل، أقبلت حتى ألقيته في النفل. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا سُئِلَه، فعرفه الأرقم بن أبي الأرقم، فسأله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه إياه.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الفتح عبدالله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية، بما فتح الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة. قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي كانت عند عثمان بن عفان. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلَّفني عليها مع عثمان، أن زيد بن حارثة قد قدم. قال: فجئته وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس، وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري العاص بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج. قال: قلت: يا أبت، أحق هذا ؟ قال: نعم، والله يا بني.
قال ابن إسحاق: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة، ومعه الأسارى من المشركين، وفيهم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، واحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه النَّفَل الذي أصيب من المشركين، وجعل على النفل عبدالله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية، يقال له: سير، إلى سرحة به. فقسّم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامة - كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان -: ما الذي تهنئوننا به ؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة، فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أي ابن أخي، أولئك الملأ. حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء قتل النضر بن الحارث، قتله علي بن أبي طالب، كما أخبرني بعض أهل العلم من أهل مكة. ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية قُتل عقبة بن أبي معيط. والذي أسر عقبة: عبدالله بن سلمة أحد بني العجلان. فقال عقبة حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله: فمن للصبية يا محمد ؟ قال: النار. فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، أخو بني عمرو بن عوف، كما حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر. ولقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك الموضع أبو هند، مولى فروة بن عمرو البياضي بحميت مملوء حيسا. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر أن يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة، قال: قُدم بالأسارى حين قُدم بهم، وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء، في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، وذلك قبل أن يُضرب عليهن الحجاب. قال: تقول سودة: والله إني لعندهم إذ أُتينا، فقيل: هؤلاء الأسارى، قد أُتي بهم. قالت: فرجعت إلى بيتي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قالت: فلا والله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أي أبا يزيد: أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراما، فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت: يا سودة، أعلى الله ورسوله تحرضين ؟ قالت: قلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت.
قال ابن إسحاق: وحدثني نبيه بن وهب، أخو بني عبدالدار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم بين أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيرا. قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمر لأبيه وأمه في الأسارى. قال: فقال أبو عزيز: مرّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها. قال: فأستحيي فأردها على أحدهم، فيردها علي ما يمسها.
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبدالله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك ؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، فلما جعل يُعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية، وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فاسئلوه عني، فقالوا: و ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال: ها هو ذاك جالسا في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبدالمطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا. قال: وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب قد قدم. قال: فقال أبو لهب: هلم إلي، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس ؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمتُ الناس، لقينا رجالا بيضا، على خيل بلق، بين السماء والأرض، والله ما تُليق شيئا، ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طُنُب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة. قال: وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فلعت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعَدَسة فقتله.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمد و أصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.
قال ابن إسحاق: وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له بمكة ابنا كيِّسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه، فلما قالت قريش لا تعجلوا بفداء أسرائكم، لا يأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبي وداعة - وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى -: صدقتم، لا تعجلوا، وانسل من الليل فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، فانطلق به.
قال: ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، أخو بني سالم بن عوف.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء، أخو بني عامر ابن لؤي: أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، دعني أنزعْ ثَنِيَّتَيْ سهيل بن عمرو، ويدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا.
قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في هذا الحديث: إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه.
قال ابن إسحاق: فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضاهم، قالوا: هات الذي لنا، قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه. فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزا مكانه عندهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، قال: كان عمرو بن أبي سفيان بن حرب، أسيرا في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أسرى بدر.
قال ابن هشام: أسره علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق: فقيل لأبي سفيان: افْدِ عمرا ابنك، قال: أيجمع علي دمي ومالي ! قتلوا حنظلة، وأفدي عمرا ! دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم. قال: فبينما هو كذلك، محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ خرج سعد بن النعمان بن أكَّال، أخو بني عمرو بن عوف ثم أحد بني معاوية معتمرا ومعه مُرَيَّة له، وكان شيخا مسلما، في غنم له بالنقيع، فخرج من هنالك معتمرا، ولا يخشى الذي صُنع به، لم يظن أنه يحُبس بمكة، إنما جاء معتمرا. وقد كان عهد قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا، أو معتمرا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمرو. ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعثوا به إلى أبي سفيان، فخلى سبيل سعد.
قال ابن إسحاق: وقد كان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبدالعزى بن عبد شمس، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته زينب.
قال ابن هشام: أسره خراش بن الصمة، أحد بني حرام.
قال ابن إسحاق: وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين: مالا، وأمانة، وتجارة، وكان لهالة بنت خويلد، وكانت خديحة خالته. فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالفها، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي، فزوجه، وكانت تعده بمنزلة ولدها. فلما أكرم الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبوته آمنت به خديجة وبناته، فصدقنه، وشهدن أن ما جاء به الحق، و دِنَّ بدينه، وثبت أبو العاص على شركه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوّج عتبة بن أبي لهب رقية، أو أم كلثوم. فلما بادى قريشا بأمر الله تعالى وبالعداوة، قالوا: إنكم قد فرَّغتم محمدا من همه، فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن. فمشوا إلى أبي العاص فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت، قال: لا والله، إني لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه في صهره خيرا، فيما بلغني. ثم مشوا إلى عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق بنت محمد ونحن نُنكحك أي امرأة من قريش شئت، فقال: إن زوجتموني بنت أبان بن سعيد بن العاص، أو بنت سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه بنت سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهوانا له، وخلف عليها عثمان بن عفان بعده. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحُلّ بمكة ولا يُحرِّم، مغلوبا على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صارت قريش إلى بدر، سار فيهم أبو العاص بن الربيع فأصيب في الأسارى يوم بدر، فكان بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عباد، عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أُسَرَائهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تُطْلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها، فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه، وردوا عليها الذي لها.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه، أو وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أن يخلي سبيل زينب إليه، أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ما هو، إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخُلِّي سبيله، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار مكانه، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب، فتصحباها حتى تأتياني بها. فخرجا مكانهما، وذلك بعد بدر بشهر أو شَيْعِه، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تجهز.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر، قال: حُدِّثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي لقيتني هند بنت عتبة، فقالت: يا بنت محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ؟ قالت: فقلت: ما أردت ذلك، فقالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك، أو بمال تتبلَّغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك، فلا تضطني مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال. قالت: والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، قالت: ولكني خفتها، فأنكرت أن أكون أريد ذلك، وتجهزت. فلما فرغت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهازها قدَّم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقود بها، وهي في هودج لها. وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذى طُوى، فكان أول من سبق إليها هبَّار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى، والفهري، فروّعها هبار بالرمح وهي في هودجها، وكانت المرأة حاملا - فيما يزعمون - فلما ريعت طرحت ذا بطنها، وبرك حموها كنانة، ونثر كنانته، ثم قال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما، فتكركر الناس عنه. وأتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا، أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثُوْرة، ولكن ارجع بالمرأة، حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدث الناس أن قد رددناها، فسُلَّها سرا، وألحقها بأبيها، قال: ففعل. فأقامت ليالي، حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبدالله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي إسحاق الدوسي، عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية أنا فيها، فقال لنا: إن ظفرتم بهبار بن الأسود، أو الرجل الآخر الذي سبق معه إلى زينب، فحَرِّقوهما بالنار، فلما كان الغد بعث إلينا، فقال: إني كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما، ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما.
قال ابن هشام: وقد سمى ابن إسحاق الرجل في حديثه، وقال: هو نافع بن عبد قيس.
قال ابن إسحاق: وأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حين فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح، خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام، وكان رجلا مأمونا، بمال له وأموال لرجال من قريش، أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هاربا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبوالعاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار بها، فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح - كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صُفَّة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع قال: فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت ؟ قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته، فقال: أي بُنيَّة، أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، و قد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به، فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الرجل بالشَّنَّة وبالإداوة، حتى إن أحدهم ليأتي بالشِّظاظ، حتى ردوا عليه ماله بأسره، لا يفقد منه شيئا ثم احتمله إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله، ومن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه، قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت، ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول لم يحُدث شيئا بعد ست سنين.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة: أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين، قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال المشركين ؟ فقال أبو العاص: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي.
قال ابن هشام: وحدثني عبدالوارث بن سعيد التنوري، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي، بنحو من حديث أبي عبيدة، عن أبي العاص.
قال ابن إسحاق: فكان ممن سُمِّي لنا من الأسارى ممن مُنَّ عليه بغير فداء، من بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو العاص بن الربيع بن عبدالعزى بن عبد شمس، منَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفدائه. ومن بني مخزوم بن يقظة: المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيدة بن عمر بن مخزوم، كان لبعض بني الحارث بن الخزرج، فَتُرك في أيديهم حتى خلوا سبيله. فلحق بقومه.
قال ابن هشام: أسره خالد بن زيد، أبو أيوب الأنصاري، أخو بني النجار.
قال ابن إسحاق: وصيفي بن أبي رفاعة بن عابد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، تُرك في أيدي أصحابه، فلما لم يأت أحد في فدائه أخذوا عليه ليبعثن إليهم بفدائه، فخلوا سبيله، فلم يف لهم بشئ، وأبو عزة، عمرو بن عبدالله بن عثمان بن أهيب بن حذافة بن جمح، كان محتاجا ذا بنات، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة، وذو عيال، فامنن علي، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ عليه ألا يظاهر أحدا.
قال ابن هشام: كان فداء المشركين يومئذ أربعة آلاف درهم للرجل، إلى ألف ردهم، إلا من لا شيء له، فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير، وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر.
قال ابن هشام: أسره رفاعة بن رافع، أحد بني زريق.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش بعدهم خير، قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة: ابني أسير في أيديهم، قال: فاغتنمها صفوان وقال: علي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أُواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم شأني وشأنك، قال: أفعل. قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشُحذ له و سُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا، وحَزَرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، قال: فأدخله علي، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال: إنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام: تحية أهل الجنة، فقال: أما والله يا محمد، إن كنت بها لحديث عهد، قال: فما جاء بك يا عمير ؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف في عنقك ؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا ؟ قال: اصدقني، ما الذي جئت له ؟ قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بدَيْنك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره، ففعلوا. ثم قال: يا رسول الله، إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي، فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، و إلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم ؟ قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة. وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا، ولا ينفعه بنفع أبدا. فلما قدم عمير مكة، أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذي من خالفه أذى شديدا، فأسلم على يديه ناس كثير.
قال ابن إسحاق: وعمير بن وهب، أو الحارث بن هشام، قد ذُكر لي أحدهما، الذي رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر، فقيل: أين أي سُراق ؟ ومثَلَ عدو الله فذهب، فأنزل الله تعالى فيه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ}. فذكر استدراج إبليس إياهم، وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم، حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة في الحرب التي كانت بينهم. يقول الله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة، قد أيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على عدوهم، {نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ)}. وصدق عدو الله، رأى ما لم يروا، وقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} [الأنفال]. فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة لا ينكرونه، حتى إذا كان يوم بدر، والتقى الجمعان نكص على عقبيه، فأوردهم ثم أسلمهم.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أنه كان مع المسلمين يوم بدر من الخيل، فرس مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان يقال له: السبل، وفرس المقداد بن عمرو البهراني، وكان يقال له: بَعْزجة، ويقال: سبحة، وفرس الزبير بن العوام، وكان يقال له: اليعسوب. ومع المشركين مائة فرس.