قال ابن إسحاق: فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه، وأوى إليهم من المسلمين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين، بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها. فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين من قريش، من بني مخزوم: أبو سلمة بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، واسمه: عبدالله، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجرا.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبي، إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبدالله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بنى المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه ؟ علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت: فنـزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبدالأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله، لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا بُنيَّ سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففُرِّقَ بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي، حتى أُمسي سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمنى، فقال لبني المغيرة: ألا تخُرجون هذه المسكينة، فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ! قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: وردَّ بنو عبدالأسد إلي عند ذلك ابني. قالت: فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خلق الله. قالت: فقلت: أتبلَّغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبدالدار، فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية ؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أوما معك أحد ؟ قالت: فقلت: لا والله، إلا الله وبُنيَّ هذا، قال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط، أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح، قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني، وقال: اركبي. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذه بخطامه، فقاده، حتى ينزل بي. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة. قال: فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.
قال ابن إسحاق: ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة، حليف بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم بن عبدالله بن عوف بن عبيد بن عدي بن كعب. ثم عبدالله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد بن جحش، وهو أبو أحمد - وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكة، أعلاها وأسفلها، بغير قائد، وكان شاعرا، وكانت عنده الفرعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبدالمطلب بن هاشم - فغُلِّقت دار بني جحش هجرة.
قال ابن إسحاق: ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، ويزيد بن رقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثقف بن عمرو، وربيعة بن أكثم، والزبير بن عبيد، وتمام بن عبيدة، وسخبرة بن عبيدة، ومحمد بن عبدالله بن جحش. ومن نسائهم: زينب بنت جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجذامة بنت جندل، وأم قيس بنت محصن، وأم حبيب بنت ثمامة، وآمنة بنت رقيش، وسخبرة بنت تميم، وحمنة بنت جحش.
قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، حتى قدما المدينة. فحدثني نافع مولى عبدالله بن عمر، عن عبدالله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، قال: اتعدت، لما أردنا الهجرة إلى المدينة، أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي بن وائل السهمي، التَّناضِبَ من أضاة بني غفار، فوق سَرِف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حُبس فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفُتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابنَ عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلى عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، قال: فقال: أبر قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه. قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب، فانج عليها. فخرج عليه معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تُعْقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى. قال: فأناخ، وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن.
قال ابن إسحاق: فحدثني به بعض آل عياش بن أبي ربيعة: أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهارا موثقا، ثم قالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
قال ابن اسحاق: ونزل عمر بن الخطاب حين قدم المدينة ومن لحق به من أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبدالله ابنا سراقة ابن المعتمر وخنيس بن حذافة السهمي - وكان صهره على ابنته حفصة بنت عمر، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده - وسعيد بن زيد عمرو بن نفيل، وواقد بن عبدالله التميمي، حليف لهم، وخولي بن أبي خولي، ومالك بن أبي خولي، حليفان لهم.
قال ابن هشام: أبو خولي: من بني عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
قال ابن إسحاق: وبنو البكير أربعتهم: إياس بن البكير، وعاقل بن البكير، وعامر بن البكير، وخالد بن البكير، وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث، على رفاعة بن عبدالمنذر بن زنبر، في بني عمرو بن عوف بقباء، وقد كان منزل عياش بن أبي ربيعة معه عليه حين قدما المدينة. ثم تتابع المهاجرون، فنزل طلحة بن عبيد الله بن عثمان، وصهيب بن سنان، على خبيب بن إساف، أخي بلحارث بن الخزرج بالسُّنْح. ويقال: بل نزل طلحة بن عبيد الله على أسعد بن زرارة، أخي بني النجار.
قال ابن هشام: وذُكر لي عن أبي عثمان النهدي، أنه قال: بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟ قالوا: نعم. قال: فإني جعلت لكم مالي. قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ربح صهيب، ربح صهيب.
قال ابن إسحاق: ونزل حمزة بن عبدالمطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كنَّاز بن حصن.
قال ابن هشام: ويقال: ابن حصين - وابنه مرثد الغنويان، حليفا حمزة بن عبدالمطلب.
قال ابن إسحاق: وأنسة، وأبو كبشة، موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على كلثوم بن هدم، أخي بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: بل نزلوا على سعد بن خيثمة، ويقال: بل نزل حمزة بن عبدالمطلب على أسعد بن زرارة، أخي بني النجار. كل ذلك يقال. ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخوه الطفيل بن الحارث، والحصين بن الحارث، ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، وسويبط بن سعد بن حريملة، أخو بني عبدالدار، وطليب بن عمير، أخو بني عبد بن قصي، وخباب، مولى عتبة بن غزوان، على عبدالله بن سلمة، أخي بَلْعجلان بقباء. ونزل عبدالرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخي بلحارث بن الخزرج، في دار بلحارث بن الخزرج. ونزل الزبير بن العوام، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبدالعزى، على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة، دار بني جحجبى. ونزل مصعب بن عمير بن هاشم، أخو بني عبدالدار على سعد بن معاذ بن النعمان، أخي بني عبدالأشهل، في دار بني عبدالأشهل. ونزل أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبي حذيفة، وعتبة بن غزوان بن جابر على عباد بن بشر بن وقش أخي بني عبدالأشهل، في دار عبدالأشهل.
قال ابن هشام: سالم مولى أبي حذيفة سائبة، لِثُبَيتَة بنت يعار بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، سَيَّبَتْه فانقطع إلى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة فتبناه، فقيل: سالم مولى أبي حذيفة. ويقال: كانت ثُبيتة بنت يعار تحت أبي حذيفة بن عتبة، فأعتقت سالما سائبة. فقيل: سالم مولى أبي حذيفة.
ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر، أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار، فلذلك كان حسان يحب عثمان ويبكيه حين قتل. وكان يقال: نزل الأعزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا، فالله أعلم أي ذلك كان.