جهاز رسول الله (ص) ودفنه

قال ابن إسحاق: أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، فحدثني عبدالله بن أبي بكر، وحسين بن عبدالله، وغيرهما من أصحابنا، أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبدالمطلب، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم الذين ولوا غسله، وإن أوس بن خولي أحد بني عوف بن الخزرج قال لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله يا علي، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أوس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل بدر، قال: ادخل فدخل، فجلس وحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد وشقران مولاه، هما اللذان يصبان الماء عليه، وعلي يغسله، قد أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي يقول: بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حياً وميتاً، ولم ير من رسول الله شيء مما يرى من الميت.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة قالت، لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه، كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه؟ قالت: فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو، أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه، قالت: فقاموا إلى رسول الله، فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.

قال ابن إسحاق: فلما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كُفِّن في ثلاثة أثواب، ثوبين صحاريين، وبرد حبرة، أدرج فيها إدراجاً، كما حدثني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، والزهري، عن علي بن الحسين.

قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبدالله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو عبيدة بن الجراح، يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل، هو الذي يحفر لأهل المدينة، يلحد، فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح، وللأخر اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة، فجاء به فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع في سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه، فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض، فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي عليه، فحفر له تحته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالاً، دخل الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء، حتى فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عمارة، عن عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة، عن عائشة رضى الله عنها، قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي، من جوف الليل من ليلة الأربعاء.

قال محمد بن إسحاق: وقد حدثتني فاطمة هذا الحديث.

قال محمد بن إسحاق: وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب: يا علي أنشدك الله، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: انزل، فنزل مع القوم، وقد كان مولاه شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وبنى عليه، قد أخذ قطيفة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويفترشها، فدفنها في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك أبداً، قال: فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفاة النبي (ص)

قال ابن إسحاق: ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون، فبينا الناس على ذلك ابتُدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكواه الذي قبضه الله فيه، إلى ما أراد به من كرامته ورحمته، في ليال بقين من صفر، أو في أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتُدىء به من ذلك، فيما ذكر لي، أنه خرج إلى بقيع الغرقد، من جوف الليل، فاستغفر لهم، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتُدىء بوجعه من يومه ذلك.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن عمرو، عن عبيد الله بن جبير، مولى الحكم بن أبي العاص عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل، فقال: يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم، قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنىء لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، ثم أقبل علي، فقال: يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، قال: فقلت: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، قال: لاوالله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبضه الله فيه.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه، قالت: ثم قال: وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك؟ قالت: قلت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتام به وجعه، وهو يدور على نسائه، حتى استعز به، وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه، فاستأذنهن في أن يمرض في بيتي، فأذِنَّ له.

قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيدالله بن عتبة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى بين رجلين من أهله: أحدهما الفضل بن العباس، ورجل أخر، عاصبا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيتي. قال عبيدالله: فحدثت هذا الحديث عبدالله بن العباس فقال: هل تدري من الرجل الآخر؟ قال: قلت: لا، قال: علي بن أبي طالب. ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد به وجعه، فقال: هريقوا على سبع قرب من أبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، قالت: فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم.

قال ابن إسحاق: وقال الزهري حدثني أيوب بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم، فأكثر الصلاة عليهم، ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا بين ما عنده، فاختار ما عند الله، قال: ففهمها أبو بكر، وعرف أن نفسه يريد، فبكى، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فقال: على رسلك يا أبا بكر، ثم قال: انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد، فسدوها إلا بيت أبي بكر، فأني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه.

قال ابن هشام ‏:‏ويروى إلا باب أبي بكر.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن عبدالله، عن بعض آل أبي سعيد بن المعلى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ في كلامه هذا: فإني لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، وغيره من العلماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد، وهو في وجعه، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، وقد كان الناس قالوا: في إمرة أسامة: أمَّر غلاماً حدثاً على جِلَّة المهاجرين والأنصار، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: أيها الناس أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقاً لها. قال: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكمش الناس في جهازهم، واستعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فخرج أسامة، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف، من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره، وتتام إليه الناس، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام أسامة والناس، لينظروا ما الله قاض في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده.

رواه البخاري.

قال ابن إسحاق: قال الزهري وحدثني عبدالله بن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم صلى واستغفر لأصحاب أحد، وذكر من أمرهم ما ذكر، مع مقالته يومئذ: يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون، وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وأنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، قال عبدالله: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل بيته، وتتام به وجعه حتى غمر، قال عبدالله فاجتمع إليه نساء من نسائه: أم سلمة، وميمونة، ونساء من نساء المسلمين، منهن أسماء بنت عميس، وعنده العباس عمه، فأجمعوا أن يلُدُّوه، وقال العباس ‏:‏لألُدَّنَّه، قال: فلدُّوه، فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من صنع هذا بي؟ قالوا: يا رسول الله، عمك، قال ‏:‏هذا دواء أتى به نساء جئن من نحو هذه الأرض، وأشار نحو أرض الحبشة، قال: ولِم فعلتم ذلك؟ فقال عمه العباس: خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب، فقال: إن ذلك لداء ما كان لله عز وجل ليقذفني به، لا يبق في البيت أحد إلا لُدّ إلا عمي، فلقد لُدَّت ميمونة وإنها لصائمة، لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقوبة لهم بما صنعوا به.

قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن عبيد بن السباق، عن محمد بن أسامة، عن أبيه أسامة بن زيد، قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أُصْمِت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فأعرف أنه يدعو لي.

قال ابن إسحاق: وقال ابن شهاب الزهري حدثني عبيد بن عبدالله بن عتبة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما أسمعه يقول: إن الله لم يقبض نبيا حتى يُخيِّره، قالت: فلما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أخر كلمة سمعتها وهو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة، قالت: فقلت: إذا والله لا يختارنا، وعرفت أنه الذي كان يقول لنا: إن نبياً لم يقبض حتى يُخيَّر، قال الزهري وحدثني حمزة بن عبدالله ابن عمر، أن عائشة قالت: لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: قلت: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت، كثير البكاء إذا قرأ القرآن، قال: مروه فليصل بالناس.قالت: فعدت بمثل قولي، فقال: إنكن صواحب يوسف، فمروه فليصل بالناس، قالت: فوالله ما أقول ذلك إلا أني كنت أحب أن يصرف ذاك عن أبي بكر، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلاً قام مقامه أبداً، وأن الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر.

قال ابن إسحاق: وقال ابن شهاب حدثني عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال: لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين، قال: دعاه بلال إلى الصلاة، فقال: مروا من يصلي بالناس، قال ‏:‏فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: قم يا عمر، فصل بالناس، قال: فقام، فلما كبر، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، قال: فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس، قال: قال عبدالله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ‏!‏ ماذا صنعت بي يا بن زمعة، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس، قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكني حين لم أرى أبا بكر، رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.

قال ابن إسحاق: وقال الزهري حدثني أنس بن مالك: أنه لما كان يوم الإثنين الذي قبض الله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الناس، وهم يصلون الصبح، فرفع الستر، وفتح الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فرحا به، وتفرجّوا، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً لما رأى من هيئتهم في صلاتهم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة، قال: ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفرق من وجعه، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث عن القاسم بن محمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، حين سمع تكبير عمر في الصلاة: أين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، فلولا مقالة قالها عمر عند وفاته، لم يشك المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر، ولكنه قال عند وفاته: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أتركهم فقد تركهم من هو خير مني، فعرف الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحداً، وكان عمر غير متهم على أبي بكر.

قال ابن إسحاق: وحدثني أبو بكر بن عبدالله بن أبي مليكة قال: لما كان يوم الاثنين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه إلى الصبح، وأبو بكر يصلى بالناس، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرج الناس، فعرف أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهره، وقال: صل بالناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فصلى قاعداً عن يمين أبي بكر، فلما فرغ من الصلاة، أقبل على الناس، فكلمهم رافعا صوته، حتى خرج صوته من باب المسجد، يقول: أيها الناس سُعِّرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علي بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن، قال: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، قال له أبو بكر: يا نبي الله، إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة، أفآتيها؟ قال: نعم، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح.

قال ابن إسحاق: قال الزهري وحدثني عبدالله بن كعب بن مالك، عن عبدالله بن عباس، قال ‏:‏خرج يومئذ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً، قال: فأخذ العباس بيده، ثم قال: يا علي، أنت والله عبد العصا بعد ثلاث، أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كنت أعرفه في وجوه بني عبدالمطلب، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه، وإن كان في غيرنا أمرناه، فأوصى بنا الناس، قال: فقال له علي: إني والله لا أفعل، والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أشتد الضحاء من ذلك اليوم.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: قالت: رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد، فاضطجع في حجري، فدخل علي رجل من آل أبي بكر، وفي يده سواك أخضر، قالت: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه في يده نظرا عرفت أنه يريده، قالت: فقلت: يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال: نعم، قالت: فأخذته فمضغته له حتى لينته، ثم أعطيته إياه، قالت: فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط، ثم وضعه، ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص، وهو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة، قالت: فقلت: خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق، قالت: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: سمعت عائشة تقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وفي دولتي، لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء، وأضرب وجهي.

قال ابن إسحاق: قال الزهري وحدثني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، قال: وأقبل أبو بكر، حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً، قال: ثم رد البرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج، وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر، أنصت، فأبي إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبدالله فإن الله حي لا يموت، قال: ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران]. قال ‏:‏ فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم، وقال: فقال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعُقِرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.